رئيس التحرير
عصام كامل

الوَالي..والشَبِيح!


يذكرنى دائما "واقع" الحُكم في بلادنا.. بشكل "الجزيرة" التي كنت أعيش فيها في الصغر.. كانت جزيرة واحدة أو بلدة واحدة.. يسكنها شعب واحد.. وحينما شقها النهر طرحت على جانبيها جزيرتين.. فصار الشعب شعبين يتنافسان على"موارد" الجزيرتين.. ونسوا جميعا ًبأنهم كانوا شعبا واحدا وإرادة واحدة..!


ويذكرنى "النهر" بالثورة التي طالما انتظرها الشعب للانتصار على واقعه المرير.. والقضاء على"مسببات"الجهل والفقر والمرض.. لكنها قَسَّمَت الشعب ليس لقسمين فقط كما فعل النهر.. وإنما إلى فرق عديدة متصارعة.. جميعها يريد"الانتصار"على الآخر، وربما القضاء عليه.. وإن كان الثمن هو"حَرق"الجزيرة ذاتها.. تلك التي كانت يوما بالنسبة لهم هي"الوطن"..!

لم يختلف واقعنا السياسي المأزوم عن قصة تلك الجزيرة المتنازع عليها.. فقد صارت الدولة في بلادنا عبارة عن جزيرة يشقها "نهر" مَهِيب..على أحد جانبيه يُقِيم النظام وحاشيته.. وعلى الجانب الآخر يعيش الشعب..وإذا حاول أحد الطرفين أن يقترب من الآخر؛ فإنه يُعرض نفسه للغرق.. فغالبا ما ينصح فقهاء السياسة الحكام بأن الاستمرار في الحكم يلزمه أن يكونوا هم على أحد شواطئ النهر.. ويكون أقرب مواطن بالنسبة لهم على الشاطئ الآخر..!

وهنا تصبح وظيفة المستشارين والسياسيين والإعلاميين هي الحفاظ على المسافة الفاصلة بين الحاكم والشعب..بل يحرصون دائما على توسيع تلك الفجوات؛ بدعوى أنه كلما ابتعد الطرفان عن بعضهما؛ كلما تجنب كلاهما احتمالات الغرق!

والمسافة بين الحاكم وشعبه ليست "أمتارا" يقطعها أحد الطرفين للوصول إلى الآخر..وإنما هي "إرادة" متأصلة في عقيدة كل منهما.. لا يمكنها بحال أن تتجزأ.. فإرادة الحاكم دائما يجب أن تنبع من إرادة الشعب الذي يحكمه.. والحاكم هنا لا يجب أن يلعب دور"الوصى"على مجتمع "جاهل".. كما هو الحال في بلادنا.. وإنما يجب أن يكون هو أداة الشعب لـ "تقرير مصيره" و"إنفاذ إرادته" في حياة طيبة وعيش كريم!

وإذا راود الحاكم "حلم".. وَجَب عليه أن يَعرِضَه على الشعب.. فإذا وافق ذلك الحلم طموحات الشعب.. تحول في عقيدة الحاكم إلى"إرادة وتكليف"؛ يبذل الحاكم قصارى جهده من أجل تحقيقه! ويصبح همه الأول هو الحفاظ على الوجود في الجزيرة التي يعيش فيها الشعب.. يشرب من الماء الذي يشربون.. ويأكل من الطعام الذي يأكلون.. ويتجرع من"المعاناة" التي يعيشونها.. بل وتصبح وظيفته هي"التخفيف" من تلك المعاناة التي على كاهل الشعب.. وليست إدارة البلاد بخلق المزيد من الأزمات والمعاناة؛ ليصبح دائما في"وَضعيَّة" الخنوع.. فإذا راودته رغباته إلى الثورة..عَجَّزته قدراته عن القيام بها!

أما إذا اختلفت"إرادة" الحاكم عن إرادة الشعب..فهذا دليل دامغ على أنه بدأ العيش في جزيرته الخاصة..ويتحول بمرور الوقت إلى"أذن" لا تسمع سوى إلى مستشاريه.. الذين لا ينقلون إليه إلا ما يُمَّكِنَه من الحكم، ولو على حساب مصالح الشعب.. وتصبح وصيتهم له دائما باستخدام "العنف".. الذي يحوله بمرور الوقت أيضا إلى حاكم "مُستَبِد"..يحتاج تقويمه إلى"شَّبِيحَة" يفرزهم "واقع مرير" صنعه حاشية الحاكم..وأقره "قراراته" المجحفة!

وفى واقعنا المرير الذي تحول فيه الحكام إلى ولاة..أصبح ل ـ"الشَّبيحة" دور أسياسى في إعادة تشكيل ذالك الواقع وإدارته..لا يعبرون عن مطالب الشعب الذي يخرجون من عباءته..بل ربما يصبحون أداة الوالى لتأديب الشعب بصورة سريعة..حينما تعجز أدواته القمعية الرسمية في القيام بدورها!

والشَّبِيح ليس هو"البلطجي" الذي تعاون معه بعض رجال الوالى؛ لتحقيق مكاسب سياسية أو مادية.. من خلال تنفيذ عمليات "إجرامية" لصالح النظام. وإنما قد يحاول النظام استقطاب هؤلاء الشبيحة لتفتيت التحالفات الشعبية المعارضة، من خلال التلويح لهم بمكاسب شخصية خاصة؛ مستغلًا في ذلك شعبيتهم، وقدرتهم على التأثير في الرأى العام!

وقد يكون الشَّبِيح "ناشطا" سياسىيًا تم توجيهه..أو"مُجرِم" محترف تم توظيفه..أو"إعلامي" تم استخدامه لفتح ملفات "فاضحة" لبعض المعارضين؛ يعجز"القضاء"عن الوصول إلى أدلة إدانتهم.. ورغم خطورة الأشكال الثلاثة للشَّبيحة.. بيد أن الإعلاميين"المُسَيَسِين"هم الأخطر..حيث تتحول"الفضائيات"إلى منصة قضاء.. يديرها شبيحة.. يهاجمون دائما من يعترض على سياسة الوالى..ويهددون المعارضين بـ" سيديهات" ربما تكون مفبركة..لا يملك فيها المتهمون حق الدفاع عن "أعراضهم"المنتهكة..ولا "حقوقهم" المسلوبة!

حيث يستغل هؤلاء"الشَّبيحة" ثقافة المجتمع؛ التي تجعل الفضائح أشد ألما من العقوبات الجنائية.. فذاكرة المجتمع لا تنسى فضائح أبنائه..وإذا كانت الجريمة تسقط بأداء العقوبة؛ فالفضائح لا تُمحى من ذاكرة المجتمع..حتى وإن كان المتهمون أبرياء!

إن ظهور"الشبيحة" بكثرة في السنوات الأخيرة ليس صدفة يفرضها واقع.. وإنما هم"أذرع" الشعب التاريخية للوقوف في وجه حُكامه المستبدين.. وهم أيضا أداوات الحاكم لإنفاذ قرراته"التمكينية" دون تصادم مع القوانين الدولية؛ التي تلزم الحكام باحترام حق المواطنين في حياة كريمة.. ودون إخلالهم بالوجه المزيف للديمقراطية.. !
Sopicce2@yahoo.comjadv



الجريدة الرسمية
عاجل