رئيس التحرير
عصام كامل

بالصور.. مقتنيات من العصر الحجري بمتاحف مدينة «برغش» في إسبانيا

فيتو

يعرض الدكتور محمود رمضان - خبير الآثار والعمارة الإسلامية، مدير مركز الخليج للبحوث والدراسات التاريخية- موضوعًا مهمًا بصفحته «الصالون الثقافي» عن متاحف مدينة برغش إسبانيا بقلم الدكتور أحمد الصاوي - أستاذ الآثار والفنون الإسلامية- في إطار دعوة العالمين الجليلين لنشر الوعي بأهمية التراث الإنساني العالمي والحفاظ عليه.


يقول الدكتور الصاوي:

تقع مدينة بورغس أو كما سماها العرب "برغش" في قطالونيا بوسط شمال إسبانيا،ورغم أنها لم تخضع سياسيا للحكم الإسلامي في الأندلس وظلت نقطة متقدمة في مواجهة توغل المسلمين باتجاه الشمال إلا أنها بمبانيها التاريخية ومقتنيات متاحفها تجسد معنى التأثر بحضارة الإسلام.

وقد أنشئت برغش في عهد ملك قشتالة ألفونسو الثالث عام 910م وأحاطها الملك بسور لحمايتها من جيوش المسلمين،وتعد كنيستها من أهم الكنائس بإسبانيا وكذا الدير الملكي الذي ألحقت به المدافن الخاصة بملوك قشتالة.

ومن المفارقات المهمة أن الفنانين والصناع من المدجنين- أي المسلمين الذين أجبروا على إظهار التنصر- قد عملوا في بناء وزخرفة هذا الدير بأعمال الجص الأندلسي الطابع،ومن ثم فقد غزت الفنون الإسلامية هذا الدير الذي لا نعدم بين جدرانه "لا إله إلا الله".

وفي المدينة عدة متاحف تحوي بين مقتنياتها العديد من التحف الإسلامية التي حرص أثرياء العصور الوسطى والقساوسة في الكنائس على اقتنائها، فضلا عن الفنون التطبيقية التي أنتجها المدجنون من المسلمين بعد سقوط الممالك الإسلامية في الأندلس.

وفي طليعة تلك المتاحف متحف برغش الذي ظهر لأول مرة في عام 1846م نتيجة للكنوز الفنية التي صودرت عام 1835م من الكنائس والأديرة.

وظل المتحف يتنقل بمحتوياته بين عدد من الأديرة والمدارس إلى أن استقر في عام 1878م في مبنى خاص في شارع "أركو دي سانتا ماريا"، ومع النمو الكبير في مجموعاته الأثرية تم نقله لأحد قصور عصر النهضة في عام 1955م،وهو قصر "دون ميراندا دي فرانسيسكو" الذي صممه المعماري خوان دي فاييخو عام 1545م،حيث عرف باسم المتحف الأثري لمقاطعة برغش ثم متحف برغش فقط.

ويضم المتحف بقاعاته المختلفة أقساما تعرض لتاريخ الإقليم منذ العصور الحجرية إلى جانب مقتنيات من العصور المختلفة، ولا سيما من العصور الوسطى إبان ازدهار الفنون الإسلامية ولاسيما تلك التي صنعت ببلاد المغرب والأندلس.

ومن أهم المقتنيات الأندلسية علبة أسطوانية من الخشب مؤلفة من قطعتين تجمع بينهما مفصلات من البرونز، ورغم بساطة مظهرها الخارجي فإنها من الداخل حافلة بالزخارف النباتية المحفورة بدقة بين مناطق دائرية غائرة موزعة بواقع خمس بكل ناحية،وهو ما أثار الجدل بين علماء الآثار بشأن الغرض الأصلي من عمل هذه التحفة النادرة.

فهناك من يعتقد بأنها عبارة عن لعبة أندلسية تعرف باسم "المنقلة" وهي معروفة في الشرق الإسلامي، ولكن فريقا آخر من الآثاريين يرى أنها كانت تستخدم لحفظ بعض الأغراض النسائية ذات الصلة بالتزين، خاصة وأن ثمة نص كتابي عليها يشير بوضوح إلى أنها تخص إحدى كريمات الخليفة الأموي بالأندلس عبد الرحمن الناصر، وهو "هذا ما عمل للسيدة ابنة عبد الرحمن أمير المؤمنين"، وربما تكون تلك التحفة أهم وأقدم ما يقتنيه متحف برغش من تحف الفنون الإسلامية التي صنعت بقرطبة في عصر الخلافة خلال القرن الرابع الهجري.

ومن أهم متاحف برغش التي تضم عددا كبيرا من نماذج الفنون الإسلامية والأعمال الفنية للمدجنين متحف أقمشة العصور الوسطى في الدير الملكي المعروف باسم سانتا ماريا، وهو كيان معماري ضخم يضم عدة مبان داخل سور له بابان أحدهما للجمهور والآخر للراهبات.

وقد شيد هذا الدير في عام 1187م تلبية لرغبة "دونا ليونور" زوجة ألفونسو الثامن ملك قشتالة في منح الراهبات نفس الحظوظ والمسئوليات الدينية التي كانت لرجال الكنيسة وأنجزت المبانى الأولى فيما بين 1180 و1190م،وشملت الدير وكنيسة العذراء وهي تعد بعقودها وأعمال زخارف الجص قطعة من الفن الإسلامي خلال عصر الموحدين،حتى إنها تحفل بكتابة شهادة التوحيد "لا إله إلا الله" بالخط المغربي الأندلسي بهاماته الرشيقة.

وكانت عادات ملوك قشتالة تعطي لهذا الدير أهمية خاصة،فبه احتفل بتنصيب الملوك، وبمقابره دفنت الشخصيات المهمة من الملوك والأمراء والنبلاء، وطبقا للتقاليد الملكية كانت ملابس هؤلاء تعرض عند قبورهم.

ورغم أن عمليات السلب والنهب التي رافقت أحداث الحرب الأهلية الإسبانية في ثلاثينيات القرن العشرين قد ذهبت بالعديد من ملابس الملوك والنساء والأطفال الرضع إلا أن ما تبقى منها ليعرض بمتحف منسوجات العصور الوسطى بالدير يضع هذا المتحف في طليعة المتاحف العالمية المعنية بتاريخ المنسوجات.

وإذا كان المتحف يحفل بالأقمشة المنتجة في المغرب والأندلس وحتى في إسبانيا النصرانية على أيدي المدجنين وبشمال أوروبا إلا أن أهم قطعه الفنية على الإطلاق هو العلم أو الراية التي كان يرفعها جيش الموحدين في معركة العقاب الشهيرة التي كان انتصار ملوك قشتالة فيها إيذانا بالغروب النهائي لشمس الأندلس، ويعرف بين مقتنيات المتحف براية "نافاس"، إشارة لاسم المعركة المعروف في اللغة القشتالية باسم معركة دي لاس نافاس تولوسا.

وتبدو هذه الراية على هيئة بند كان ينشر على استطالته (3.33م) يحتل ضلعه من الجهة التي يرفع منها شريط كتابي نقرأ فيه "بسم الله الرحمن الرحيم"،وهو محصور بين شريطين بهما كتابة بالخط المغربي، بينما رقعة الراية بوسطها مربع تحتله دائرة،وقد ازدانت حدود المربع والدائرة برسوم دوائر بيضاء تتبادل مع مناطق بها زخارف هندسية،وبوسط الدائرة كتابات كوفية تمتزج بزخارف هندسية معقدة، بينما تحيط بالرقعة الرئيسة أشرطة بالخط المغربي نفذت باللون الأزرق على أرضية صفراء داكنة.

والحقيقة أن هذه الراية تعد إلى جانب قيمتها التاريخية قطعة من الفن الجميل يحق للمتحف أن يعتبرها درة مقتنياته الفنية.

ومن الأقمشة الأندلسية التي تعود لفترة الموحدين غطاء وسادة أنتج بواسطة صناع من المسلمين،وهو يمتاز بنسيجه الرقيق ويحتوى زخارف باللون الأصفر الداكن على أرضية حمراء، وقوام الزخرفة هنا دائرة وسطى محاطة بكتابة عربية غير مقروءة بداخلها رسم لجارية تضرب الدف لسيدها الذي يحتسي كأسا من الشراب بيده اليسرى،وتحيط بالدائرة أربع مناطق على هيئة نجمة ثمانية الأضلاع،وأخيرا شريطان في كل جانب بهما كتابة بالخط الكوفي ذات طابع زخرفي محض.

وهناك بالمتحف أيضا قطعة من نسيج حريري به خيوط من الذهب، وهي من كنوز دير سانتا ماريا المهمة،وقد نسجت في عصر الموحدين بالأندلس، وتحصر زخارفها التي تتخذ هيئة مناطق دائرية على مهاد من الزخارف الهندسية شريطا زخرفيا يحاكي الأشرطة الكتابية لمنسوجات الطراز الإسلامي،وتبدو الزخرفة الرأسية شبيهة بحرفي الألف واللام وإن انتهت من طرفيها برسوم المراوح النخيلية التي تفصل بين مناطق من زخارف نباتية متماثلة.

والملاحظ في مقتنيات المتحف من قطع النسيج التي أنتجت خلال عصر دولة الموحدين أن اللون الأحمر كان غالبا عليها،ومن أروعها قطعة نسيج يبلغ طولها 225سم،وعرضها 175سم، وتزدان ساحتها برسوم دوائر بها كتابات بالخط الكوفي، وبداخلها رسم لوحشين متدابرين يتكرر باختلاف الألوان،بينما يتوج القطعة من أعلي شريط بالخط الكوفي المنسوج على أرضية زرقاء داكنة، وتعطي الزخرفة مثالا دقيقا على اختلاط التقاليد الإسلامية الزخرفية بمتطلبات النبلاء في أوروبا في تلك الفترة المبكرة من القرن 13م.

ومن أبدع مقتنيات هذا المتحف قطعة صغيرة ونفيسة من القماش الذي استخدمت خيوط الذهب في نسج زخارفه (71 سم طولا و49 سم عرضا)،وقد استخدمت الحروف العربية بالخط المغربي في زخرفتها مع الزخارف الهندسية، وهي تجمع بذوق فني رفيع بين اللونين الذهبي والأخضر الفاتح فقط، وكذلك رداء يزدان بزخارف كتابية تحتوي عبارات دعائية للسلطان الموحدي، وهي مسجلة بالخط المغربي.
الجريدة الرسمية