رئيس التحرير
عصام كامل

الحياة مع الله


شخصيًا، أوقن أن ما كان لي سوف يأتيني، ولو كان في عمق المحيط، كما أوقن أن ما ليس لي لن يأتيني، ولو كان بيني وبينه قيد ذراع، كما أوقن أن ما أصابني لم يكن ليخطئني، وما أخطأني لم يكن ليصيبني.. يقول ربنا جل وعلا: "وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم". (يونس: ١٠٧) 


ويقول الحبيب محمد (صلى الله عليه وسلم) لجابر بن عبد الله (رضى الله عنهما) وكان رديفه على مطية: "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك.. جفت الأقلام، وطويت الصحف". 

في ظل أنظمة الحكم الاستبدادي، على الدعاة إلى الله والعاملين في الحقل العام أن يوطنوا أنفسهم على أنهم في أي لحظة يمكن أن يفاجأوا بمن يقتحمون عليهم دورهم ويقومون باعتقالهم، أو اقتيادهم إلى نيابة أمن الدولة العليا، ثم إلى الحبس الاحتياطي فترة من الزمن، قد تطول أو تقصر.. في السجن، كان لديّ يقين بأن الله تعالى أراد لي الخير؛ أن أحفظ القرآن، وأقوم الليل تهجدًا، وأن أتحلى بالصبر والحلم، وأستدرك ما فاتني في سالف الأيام.

وتبين لي أن السجين يستطيع أن يعوض الحرية المصادرة بشيء أعز وأغلى؛ وهو أن يعيش مع الله، وأن يكون موصولاً به، فذلك يهون عليه الكثير من العذابات والآلام والأوجاع.. في كثير من الليالي، ذقت حلاوة المناجاة مع الله.. أبثه شكواي ولواعج قلبي وضعفي وقلة حيلتي.. وكان سبحانه يتنزل على بواسع رحمته وفيض جوده ومنه وكرمه، راحة ورضا وسكينة واطمئنانًا. 

في تلك الفترة، صفت نفسي من كدر الحياة الدنيا ولم يعد لدي انشغال بأي من سفسافها.. أقبلت على الآخرة بشوق، إيثارًا لما عند الله تعالى وما أعده لعباده من رضوان ونعيم.. أدركت بيقين أنها فترة حساب ومراجعة وتقويم لما فات من أحداث ومواقف وأخطاء وخطايا في زمن الحرية.. وكنت أقول لنفسي: هل كان لا بد من المجيء بك إلى هنا؟ لقد كنت على يقين أن الله تعالى هو الذي أذن في إحضاري إلى السجن، وأن هؤلاء ليسوا سوى أسباب. 

كأنما سبحانه يقول لي: ها أنذا قد أتيت بك إلى هنا، لتعلم عن يقين أنه لا حول لك ولا قوة.. حتى الجندي البسيط لا يأبه بك ولا يعيرك التفاتًا.. لا تستطيع أن تتحكم في باب الزنزانة، متى تفتح ومتى تغلق؟ ليس لك أن تختار ما تريد أن تأكله.. ومن تلك النافذة العالية داخل الزنزانة، كنت ترى العصافير تتنقل في حرية ويسر، فتتمنى أنك لو كنت طائرًا يحلق هنا وهناك، لا زنزانة ولا أسوارًا..الله تعالى يذكرك بذلك كله، لا يريدك أن تنساه أو تتناساه. 

حتى إذا أخرجك من السجن وأنعم عليك بمنصب، أو جاه أو مال، لا يأخذك كبر أو غطرسة أو غرور، ولا تتصور للحظة أنك حصلت عليه بجهدك وعرقك، بل هو فضل الله وجوده وكرمه يؤتيه من يشاء من عباده.. لقد كانت فترة السجن تدريبًا لك على الحياة مع الله، وها أنت قد ذقت حلاوتها وأيقنت من عظم نتائجها، وأنه سبحانه حفظك ورعاك، فكن نعم العبد الشاكر، الذاكر، المستغفر، الأواب، الهين، اللين، المتسامح، الكريم، الألوف، العطوف، والمتواضع، وهي كلها صفات المخبتين العابدين. 

تروى كتب السيرة أن الحبيب (صلى الله عليه وسلم)، وهو يدخل مكة فاتحًا في العام الثامن للهجرة وحوله الكتائب والرايات، وقد وقف عمه العباس مع أبي سفيان خلف صخرة يرقبان المشهد، فيقول أبو سفيان: يا أبا الفضل، لقد صار ملك ابن أخيك اليوم عظيمًا.. فيرد العباس قائلاً: يا أبا سفيان إنها النبوة.. وتروي كتب السيرة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قد أحنى هامته لله، حتى إن طرف لحيته ليمس ظهر ناقته تواضعًا لله، صاحب النصر، وواهب الحياة والوجود، ومالك الملك والملكوت.. هكذا يجب أن يكون العبد، امتثالاً وعرفانًا بجميل الله عليه.. ألم يقل سبحانه: "وما بكم من نعمة فمن الله"؟
الجريدة الرسمية