رئيس التحرير
عصام كامل

الخيانة.. وأسرار الخريف


أصابتني أحداث سيناء الأخيرة والمتكررة بحالة من الإحباط، واستثارت بي بعض أفكار؛ جعلتني أسبح عبر التاريخ، أفتش في أسباب سقوط الممالك العظيمة وانهيار الأمم.. وآلية اغتيال عظماء القادة.. وسبل الاستعمار الغاشم.. ومناهج الترويج للفساد وهدم القيم، وتصدير الإحباط للشباب.. وجاءت معظم الإجابات متشابهة محورها «الخيانة».. وأن خلف كل أزمة مرت بالبلاد «خائن».  وأن تحت مقعد كل زعيم عربى يرقد «خائن»..!

 

وفى كل حوادث التاريخ لم تكن الخيانة واحدة.. فللخيانة أنماط عديدة، ولكل حادثة مبررها؛ ولم يكن الحديث عن الخيانة بالأمر السهل؛ فقد تسببت «الخيانة» بجدارة في إسقاط أنظمة سياسية قوية، والإتيان بالبديل «الفاسد»وربما «الضعيف»..! والأمثلة على الخيانة في عالم السياسة عديدة.. ولكن أصعبها تلك التي ساهمت في إسقاط أمم وهدم دول.. أو إفشال مشاريع وطنية وبطولية عملاقة؛ واغتيال زعامات أثروا التاريخ بأفاعيل وإنجازات بطولية لم يسبقهم إليها أحد!

 

فلم ينس التاريخ السلطانة «ماه بيكر» التي ظلت نائبة للسلطان العثمانى في بدايات القرن 17 لأكثر من 37 سنة. كانت الخيانة هي وسيلتها الفعالة في البقاء على قيد السلطة.. وتسبب «حبها للسلطة» في اغتيال أقرب أهلها إليها.. فقد اغتالت السلطان العثمانى «عثمان الثاني» ابن ضرتها وكذا والدته عندما حاولا إقصائها عن السلطة.. وتآمرت مع قادة الجيوش ضد ابنها السلطان «مراد الرابع» عندما استأثر بالسلطة ورفض تدخلها في شئون الحكم. وانتهت مؤامرتها بـ«موت» ابنها السلطان الشاب في ظروف غامضة.. ثم تآمرت على أخيه السلطان «إبراهيم الأول» الذي حدد سلطاتها وصد كل ألاعيبها؛ حتى خلعته من الحكم وقدمته للجلاد؛ الذي قام بـ«إعدامه» بعد عشرة أيام فقط من الخلع..!

 

ولم تنته مؤامراتها في اغتيال من تقلدوا السلطة من أبنائها، إلا عندما حاولت اغتيال حفيدها «محمد الرابع» عندما شعرت بسيطرة أمه «خديجة تارخان» على السلطة.. لكنها فشلت «ماه بيكر» في هذه المرة؛ وتمكنت «خديجة تارخان» من إنقاذ ولدها السلطان واغتيال «ماه بيكر» بمساعدة رئيس «أغوات»الحرملك؛. لتكتب بفعلتها تلك، نهاية لأبشع جريمة خيانة في التاريخ.. خيانة مصدرها الوحيد «حب السلطة» الذي تفوق بجدارة، وانتصر على كل مشاعر الإنسانية، بما فيها مشاعر الأمومة نفسها..!

 

وإذا كان «حُب السلطة» مبررا للخيانات التي ارتكبتها «ماه بيكر» في حق «أرحامها»؛ فإن «الانتقام» كان مبررا أكبر للخيانة في دولة الفراعنة. فإذا كان بعض المؤرخين قد أرجع ثورة الجياع التي وقعت إبان الأسرة السادسة إلى «الفساد» الذي ارتكبه الملك «بيبى الثانى» وحاشيته في حق الشعب، إلا أن هناك من يعتبر خيانة واغتيال رجال القصر للابن الأكبر للملك «بيبى الأول»؛ من أجل تنصيب «أخته» بدلًا منه هي المُسَبب الرئيسى لقيام الثورة..!

 

فلم تكن «نيتو كريس» ابنة الملك بيبى الأول تحلم بالسلطة ولكن رغبتها في الانتقام والثأر لأخيها البائد؛ جعلتها تمارس أبشع أنماط الخيانة..تارة ضد رجال الدولة الذين أتوا بها إلى الحكم.. وتارة ضد الشعب الذي آمن بأبيها ملكًا ونَصَّبه «إلها»..وتارة ضد أنوثتها المَنِسية في دهاليز السياسة..!

 

ففور توليها للحكم أمرت ببناء «قصر» عظيم جعلت بأسفله حجرات متصلة بسراديب مغلقة، تنتهى بنهر النيل.. ثم دعت كل رجال بلاطها ويقال كل رجال الدولة–مما ساهموا في اغتيال أخيها- إلى «مأدبة» كبيرة بالقصر.. ثم أمرت بفتح مياه النيل على حجراته، حتى أغرقتهم جميعا، فلم ينج منهم أحد..!

 

ومات كل رجال السلطة.. تاركين خلفهم شعبا يعوى من «الجوع» و«سلطة» يتصارع عليها كل اللصوص وقطاع الطرق.. وانتهت خيانتها بثورة اجتماعية عارمة، قادها الجياع.. وتجرأت البلاد المحيطة على هيبة الدولة المصرية وانتشرت المجاعة وعز رغيف العيش وساءت أخلاق المصريين. وتعاون رجال الأمن مع اللصوص والخونة من أجل تقاسم موارد البلاد.. وبسبب الخيانة أصبح الأخ يشك في أخيه ويحتاط منه، وأغلقت البيوت أبوابها على أصحابها وخَلَّت الشوارع من المارة.. حتى صارت الأرض لم تجد من يزرعها..!

 

إذن لم تكن الخيانة محض«طبع» ولا سمة إنسانية موصومة وإنما هي جريمة ظرف؛ كان لها ما يبررها على مدى التاريخ.. فباسم استقررا البلاد والتمكين من الحكم ذبح "محمد على" المماليك، وباسم الانتقام اغتالت "نيتو كيس" كل رجال السلطة.. وباسم الإرادة الحرة قتلت "ماه بيكر" أبناءها حتى الجيل الثالث.. وباسم الوفاء للقائد قتل بيبرس الملك المظر سيف الدين "قطز".. وباسم الشرعية أعلنت جماعة "الإخوان" الحرب على كل مصرى.. وباسم الدين سلمت سيناء للإرهاب.. وباسم الدين استباحت الجماعات الإرهابية دماء المصريين.. وباسم الحق في الحياة خان بعض السيناويين الوطن، وسلموا أبناءه فريسة للإرهاب الأسود..!

 

وبالخيانة أفشلت ثورة عرابى وتم نفيه.. وبالخيانة قٌتل السادات.. وبالخيانة قامت ثورة 25 يناير، وبالخيانة سقطت! وبالخيانة تحول الربيع العربى إلى"خريف".. وبالخيانة تحولت ثوراتنا "البيضاء" إلى جحيم مُلطخ بالدماء!

 

إن القضاء على الإرهاب الأسود في سيناء لا يكون فقط بمطاردة أفراده.. وإنما بالكشف عن مواطن الخيانة ومسبباتها.. فإذا كان بعض السيناوىين يبررون خيانتهم بعتق رقابهم من يد الإرهاب.. فما مبرر خيانة بعض أفراد الأمن هنا وهناك؟! وختاما إذا أردت أن تعرف لماذا تمدد الإرهاب في سيناء؛ فتش عن الخائن.. وإذا أردت معرفة أسرار الخريف العربى؛ فتش عن «الخيانة»!

Sopicce2@yahoo.com

الجريدة الرسمية
عاجل