رئيس التحرير
عصام كامل

يحكى أن البقرة....


خط الكاتب المصري القديم على جدران عقول تلاميذه نقشا محزونا لبقرة يُمص ضرعها، وتبكي عيناها، ووليدها في ساقها مربوط، وقال لهم: "إياكم أن تنسوا دموعها، وإن رأيتموها ذات مرة هكذا. وبِّخَوا أنفسكم.. حرروها"!


كَبُر التلاميذ وصاروا أساتذة حِرِّيفة في... تنازعوا على مكانة الكاتب الكبير والكل طمع وتمسح في اللقب، فمنهم من صار كاهن المعبد، ومنهم من أصبح قائدا للجند، وهذا كبير البلاط وذاك حكيم القصر، وآخرون تربعوا فوق أعراش النخيل وطافت شهرتهم مع مراكب الشمس.

وتسيد العبث وكل رقيع ورذيل، ونبتت فطريات العفن والوسخ بين الجدران وفي الجوف.. تراجعت الحكمة وكُثر دمع البقرة، ودبت الحسرة في نفس ابنها الذي لم يجد من يمثله من تلاميذ الكاتب، موحولون بالغل وسواد جشعهم في توارث الباروكة المقدسة والتنورة القصيرة والصدرية الذهبية، وفوق كل ذلك احتكروا مص الضرع... تركوا لابنها التراب والخيش والحصير وألواح الخشب والحجر وأقلام الغاب.!

وأخيرا، هَبَدَ صاحب البلاد الجديد البوق الذي أمامه، ودب الأرض وهاج صائحا في العفن من حوله: "احضروا لي ابنها لنرى لماذا تبكي حتى الآن؟"، ومع كل هبدة يهتف الحريفة من حوله بعوج الكلم والبهرج، وأشاروا عليه بفتل حبال أكثر، فابنها لا يعي أهميتها ولا يعرف فنون إدارة ضرعها، وأمعنوا في فرض قوانين الحماية ضد ثورة الابن. وتفننوا بأن ابنها وحده المسئول عن قوتها، وحتما ولا بد أن يتبرع لها.

ومن هنا بدأت حكاية التبرع، وما بين الجوع والتخمة هزلت البقرة، ولم تعد تسر عدوا ولا حبيبا.. وجف الضرع من حماقة أصحاب معابد الحبال، وفلَّسَ مصاطب الديار من صوت الضمير والحكمة، لم يتعلموا حرفا ولم يعوا الحكاية في أصل دموع البقرة.

وفي غفلة أو في يقظة كان الاستغفال مباحا وحقا للسادة وحدهم يملكون كل شحمها ولحمها وجلدها وكل ما فيها ملك لهم، تشتد الأزمة يعكسونها على الفقير ممصوص البدن، ويتغافل صاحب الأمر كروش من حوله ويخدر البقرة بمعسول الكلام والغد القادم متناسيا الحق في ضرورة توزيع خير البقرة بشكل يضمن إعادة تدويره بين الطبقات الأكثر فقرا، وأن ينتبه على أن لا يكون حكرا لنفس الطبقة المكرشة و"المطـ..ة".

وتنفرج الأزمة، وينفك النحس من على وجوه أبنائها الأكثر احتياجا لقبلة الحياة، والحق بنور العمل، هؤلاء هم زاد المجتمع وتقدمه إذ فعلت الدولة مشروعات حقيقية قوامها "التصنيع للتصدير" حيث وضع كل فرد في مكانه بعلمه وبشهادته.

وعلى الرغم من لا حول ولا قوة، ولا قوت ولا صيت لابنها الموهوب العلم والعمل، ما زال يعافر ويقاوح بالأمل، ربما صوته يصل لجناب المقام العالي، ويهبد هبدة حق يخربط عمل الملاعين الفجرة في شفط مصر!

استجمع الولد بردي جده الكاتب وقلمه الغاب، وجلس على الحصير يخط بطمي النيل، حرف الوجع: "أريد حقي في العودة، فكيف يكون مثلي لاجئا مغتربا في دياره!".

وتختتم يحكى أن بنفس القفلة والمشهد المتكرر في كل حقبة عطب من تاريخ حكاية بقرة مصر.. وحده الحاكم من لا يعي ختام الحكاية، أحَوْلاَء أُذُنه؟! لم ينتبه إلى أن ما يسمعه أنينا وليس تسبيحا باسمه وبإنجازاته.. ويلوك الناس من حوله لتمييع المسير وتشتيت الهدف في مسيرات عظيمة يطلبون حق نصيبهم في باروكة الكاتب المصري الأثرية وتنورته وصدريته الذهبية وتوزيع الإرث السهل على كل عَالَة لا زرعت ولا قلعت ولا صنعت.

وتبقى هي لوحة جدارية محزونة تبكي، وابنها مربوط كما كان في متن يحكى أن.. باق على الجدار. ننظر ونتأسف ونتفلسف ونمض دون فك أسر الوطن المحلوب، دون الانقلاب على شعارات الكسل ونطاط الحيط.. دون الانقلاب على النفس وتحريرها، فلن تتحرر بقرة الوطن.!

وما زالت الحكاية تسري وعلى أحداق العيون جاحظة، والناس مصرة أن لا ترى مرضها ولا تريد تطبيب علتها، والبحث عن دواء للبقرة وابنها.. مشغولون هم بأصابع كفتة العلم..!
الجريدة الرسمية