رئيس التحرير
عصام كامل

التنمية.. والحنين إلى الوَجَع!


مَرَّ عربيٌ على بائع عشب مطحون بإحدى الأسواق في أوروبا.. وسأله: عفوًا سيدى.. ما هذا من فضلك..؟ فأجابه البائع: أنها بدرة لـ"العَرَق".. فتبسم العربى وقال: معذرة.. لا حاجة لى بها.. فربما صُنعت لغيرى..!! فتعجب البائع من صنيع الرجل.. وسأله في دهشة: لماذا تنكر حاجتك إليها يا رجل.. هل يوجد إنسان لا يعرق..؟ا فأجابه العربي بوجه تملئه البهجة وربما "البله": نحن شعوب لا تعرق..!! فاندهش البائع من صنيعه أكثر.. ورسم على وجهه ألف علامة للغضب والتعجب.. ثم نظر في وجهه بتهكمٍ وقال: "شعوب لا تعرق.. هي شعوب لا تعمل".. وشعوب لا تعمل.. هي شعوب لا تستحق الحياة..!


فمنذ أن هبط الإنسان على الأرض وهو في علاقة وثيقة بالإنتاج والعمل؛ كضرورة لبقائه حيًا على قيد الحياة.. ومن ثم فإن الحديث عن القوى البشرية لا يجب أن يكون في عزلة عن الحديث عن "القوى العاملة".. وإذا كان حجم القوى العاملة في مصر لا يتجاوز الثلاثين بالمائة؛ فهل تستطيع دولة في حجمها أن تعيش على إنتاج ثلث سكانها..؟ وهل تستطيع دولة الـ 70% من سكانها "غير منتجين" أن تحقق نهضتها المنشودة..؟!

والعمل والإنتاج والسعادة.. كلها مفاهيم اكتسبت خصوصية خاصة داخل كل المجتمع؛ وارتبطت بـ"معنى الحياة" لدى كل إنسان.. معنى الحياة التي أسهمت في تشكيله ظروف وأوضاع كل مجتمع.. وخلقت هذه الظروف لدى كل مواطن أفكارًا أنتجت بطبيعتها "مشاعر".. أو شكلت داخله مشاعر أو تحولت بطبيعتها أيضًا إلى"أفكار".. وشَكَّلَت هذه الأفكار والمشاعر في ذهنية كل مواطن مفاهيم حياتية؛ جعلته في "عالمنا الفقير" ربما غير مدرك المعنى الحقيقى "للسعادة".. بل إنه أصبح على يقين أنه لا حياة بدون ألم.. وأنه إذا ضحك كثيرًا يستعيذ بالله من الشيطان.. وإذا شعر بفرط الفرحة بَكَىَ.. وإذا ارتفع صوت فرحته قال "اللهم اجعله خير" وإذا أَسَرَ بفرحته إلى أحد رجال الدين؛ ذَّكَره على الفور بقوله تعالى "لا تفرحوا بما أتاكم ولا تحزنوا على ما فاتكم"؛ فتحولت ضمائرنا إلى "كرباج" نجلد به أنفسنا، عقب كل شعور بالفرح أو السعادة..!

ليس ذلك فحسب.. بل أصبحت رغبتنا في تصديق الأخبار المبشرة بحلول الهم والغم والضيم "ثلاثة أضعاف" رغبتنا في تصديق "الأخبار" المُبشرة بالرخاء والتنمية..! فصرنا مستعدين دائمًا لتصديق الأخبار "السيئة"..!

وربما يسألنى قارئ وما علاقة ذلك بالتنمية والعمل والإنتاج..؟ والإجابة بسيطة.. فقد يكون "العمل" في ذاته مصدرا للسعادة.. أو يكون "وسيلة" تقودنا دائمًا إلى تحقيق السعادة.. أو يصبح مجرد وسيلة "للتسلية" وإهدار الوقت..! إذًا العلاقة بين العمل والسعادة واضحة وحتمية، فحينما يصبح العمل في ذاته مصدرًا للسعادة أو وسيلة فاعلة لتحقيقها تنهض البلاد والشعوب وترتقى.. أما حينما يصبح العمل وسيلة للتسلية؛ "تتخلف" الشعوب عن التنمية، وتصبح السعادة" لحظة يعيشها مواطن؛ ويدفع ثمنها أجيال كثيرة متعاقبة.. ومن ثم فنحن أمام نموذجين للشعوب، أحدهما يعمل بذهنية "تدفعه" بقوة إلى السعادة.. وآخر يعمل بذهنية "ترده" بقوة إلى "الانحطاط"..!

وإذا كانت التنمية ترتبط بثقافة "الادخار".. والادخار مرتبط بالسعادة.. فالمقارنة بين الشعوب المتقدمة والمتخلفة في هذا السياق تكشف حقيقة الارتباط.. فالشعوب "المتحضرة" حينما ترغب في شراء سلعة بعينها، تقوم بادخار جزء من مصروفاتها اليومية، حتى إذا اكتمل ثمن السلعة قامت بشرائها على الفور؛ ثم احتفلت بالحصول عليها؛ ومن ثم فهى مدفوعة إلى الحفاظ عليها؛ بدعوى الخوف من العودة إلى "الحرمان" الذي عاشته من أجل الحصول عليها.. أما في الشعوب "المتخلفة" فمفهوم الادخار يختلف.. فحينما تحتاج الأسرة إلى سلعة معينة تذهب إلى "اقتراض" ثمنها؛ ومن لحظة شراء السلعة تدخل الأسرة في دائرة مغلقة من المعاناة والحرمان تحرمها من "سعادة" الحصول على السلعة.. ولا يخرج الإنسان من هذه الدائرة إلا بسداد القرض أو دخول السجن.. وتصبح السلعة -التي كانت من المفترض أنها مصدر للسعادة- مصدرًا للهم والغم والبؤس.. فيلعَنها الإنسان في كل صباح، ويعاقبها بـ"الإهمال" حتى تتحول إلى "خردة" غير قابلة للاستخدام..!

وحول مفاهيم السعادة والعمل والتنمية لا تختلف ذهنية المواطن في بلدنا كثيرا عن ذهنية حكومته.. وفى الوقت الذي تتبنى فيه الدول المتحضرة برامج لـ"التنمية المستدامة".. تتبنى حكومتنا برامجًا لـ"التنمية المستدينة".. وفى الوقت الذي تقوم فيه التنمية في البلدان المتحضرة على "الوعى المصرفى" كوسيلة لمواجهة الفقر وتحقيق التنمية.. ترى شعوبنا أن أفضل وسيلة "حلال" لحفظ الأموال هي وضعها تحت "البلاطة"..!

وفى الوقت الذي تطالب فيه حكوماتنا المواطنين بـ"التقشف" حتى تتحقق التنمية، وتؤمن بأن الأولوية للمشروعات التي تملأ البطون بـ"الخبز".. تبدأ أولويات التنمية في الدول المتقدمة بالمشروعات التي تحافظ على "كرامة" المواطن وكبريائه.. وتؤمن بأن صحة المواطن تبدأ من نظافة الشارع..! وأن شجرة من "الورد" تُغنى عن عشرة أشجار من "الفاكهة"..!

وفى الوقت الذي ترى فيه الشعوب المتحضرة أن إتقان العمل هو المظهر الأساسى للانتماء للوطن ويحرصون دائما على أن يكونوا أعظم شعوب الأرض.. لا يخرج إتقان العمل لدينا عن كونه نصًا في حديث "نبوى" نتشدق به في مجالس الحديث عن القيم.. ونتباهى دائمًا بحضارة توارت منذ أكثر من سبعة آلاف سنة؛ بات ذكرها في مجالسنا بمثابة حنين إلى الوجع..!
Sopicce2@yahoo.comjadv
الجريدة الرسمية
عاجل