رئيس التحرير
عصام كامل

الموظفون في نعيم!


قال لى وهو يتأملنى باستهانة "إنت لسَّة صغير مش فاهم حاجة، بُكرة لما تكبر هاتفهم كلامى ده".. ابتلعت إهانته لرغبتى في التعرُّف أكثر على طريقة تفكيره، وواصل هو بعدما التمعت في عينيه نظرة تشفى إذ أدرك أن سهم الإهانة الذي رمانى به قد أصابنى بالفعل وأوجعنى، فأن يكون الإنسان ذكيًا أو لماحًا لهو أمر ضار في بعض الأوقات، ولو لم يكُن كذلك لما أصابه ـ أصابنى ـ ما أصاب، المُهم واصل المُحاضرة "الحكومة ملهاش عندى غير الإمضا في الدفتر حضور وانصراف، وغير كده يشربوا من أقرب لا مؤاخذة.."!


نطق كلمة بذيئة استبدلت بها النقاط في نهاية عبارته الأخيرة، أو أعتقد أنا أنها كذلك، لا بالنسبة للاستعمال في الحياة العامة، لكن بالنسبة لكتابتها في مقال، المُهم أنه واصل وصف الحال في المصالح الحكومية مؤكدًا أن كُل ما يجرى فيها مُجرَّد هُراء لوائحى وقانونى، إذ كيف يُمكن التمييز بين أحقية مواطن في الحصول على شقة أو قطعة أرض أو قرض مُيَسَّر من البنك أو حتى إزازة زيت إضافية على حصته التموينية المُدعمة، وحرمان مواطن آخر قد يكون أكثر استحقاقًا لذلك، لمُجرَّد أن الأول قادر على إنهاء أوراق ومستندات والحصول على توقيعات وأختام ما أنزل الله بها من سُلطان، بعكس الثانى!

أكد أن المواطن الشريف العفيف لا يُمكنه في كثير من الأحيان والحالات تحمُّل ذُل وإهانة ومرمطة الجَرى بين المكاتب والأروقة والطرقات، باحثًا عن توقيع الأستاذ (داوود) المشغول لشوشته بالحصول على مستوى جديد في لعبة كاندى كراش، أو حالمًا بضبط (خيرى) بك جالسًا على مكتبه ولو لخمس دقائق ليحصُل منه على ختم النسر، خاصةً أن صاحب المكتب الشاغر دائمًا يكون مشغولًا في أوقات العمل الرسمية بأمور أكثر أهمية؛ إذ يُتابع مشروعه التجاري الناجح الذي افتتحه في مول قريب من المصلحة، وهو عبارة عن محل لبيع الملابس الداخلية الحريمى، ولا يرغب في تركه للصنايعية والموظفات سايب في سايب كيلا يتسببوا في خراب بيته!

وعلى العكس فإن المواطن المدقدق الذي يُجيد لعب الثلاث ورقات، هو وحده القادر على التنطيط بين المكاتب والمصالح والمول، فيُقدِّم لـ(داوود) شاحن وجراب أصليين لموبايله، ومُمكن يجيب له موبايل أحدث من التوكيل، أو يروح يشترى بضاعة بألف جنيه من محل (خيرى) بك، ويفاتحه في الموضوع ويحصُل منه على الختم والنسر معًا، فيكون بمقدوره الحصول على شقة سابعة أو ثامنة من شقق الإسكان المتوسط للغلابة والمساكين وضحايا انهيار العقارات، فيضُمها لأسطول الشقق التي يمتلكها، ويقوم بتأجيرها بمُدد سنتين وثلاث سنوات، فيحصُل منها على إيراد جيَّد، لحد ما العيال يكبروا ويجوِّز كُل عيِّل في شقة منهم!

أكد لى ـ كمواطن صغير ولسَّه مش فاهم الدُنيا ـ أن الورق هو سيد الأشياء وليس العمل، وطالما الورق مضبوط (حضور وانصراف وميزانية إن وُجِدَت) فمحدش له عنده حاجة، وبمُناسبة العمل فهذا الفعل هو آخر ما يُفكِّر الموظف في القيام به أثناء وجوده في مقر المصلحة؛ إذ أن تناول الإفطار والتدخين، والتواصُل الاجتماعى مع الزُملاء (تكوين جمعية وقبضها ـ تبادُل آراء في الأزواج أو الزوجات أو العريس الجديد اللى جاى لبنت أحدهم أو إحداهن ـ تذوُّق الكيكية التي صنعتها الزميلة (أم محمود) وعمل حوار مُجتمعى حول المُفاضلة بين البيكنج باودر والفانيليا ـ التوجُّه في العاشرة صباحًا للحاق بصلاة الجنازة على خال البقال الذي يشترى منه ساعى المكتب الشاى والسُكر، لا سيما أن الجنازة ستكون بعد صلاة الظهر، ولا مانع من التوقيع على دفتر (الانصراف بالمرَّة) وشُرب الشاى والنسكافيه والقهوة، وحل الكلمات المُتقاطعة، أو تحليل مُباراة الأهلي والزمالك التي أقيمت في اليوم السابق، كُلَّها أمور تسبق العمل في الترتيب والأولوية، خاصةً أن هذا العمل بلا جدوى تقريبًا!

قال "إيه يعنى لما أمضى لواحد مواطن على ورقة متسواش تلاتة تعريفة، وأنا عارف إنه هايلف يلف ويرجع لى تانى، أو يروح يرمى نفسه تحت أقرب أتوبيس بعد ما يفشل في إنهاء الإجراءات، معنديش مُشكلة أمضى، بس يستنى على ما ساندوتش الطعمية يخلص، بدل ما الورقة تتبَقَّع بالزيت، أنا عايز مصلحته برضو!"

شدد (حلوة شدد دى كأن وزير الخارجية هو اللى بيتكِّلم يا خَى) على أن ترهُل الجهاز الإدارى للدولة هو السبب، وأنه كموظف ليس مسئولًا عن إصلاح الكون، وأنه سيكون معتوهًا ومجنونًا ومخبولًا لو حرق دمّه وأفنى عُمره في نكد وغَم علشان التوقيع والختم والأرشيف، مؤكدًا أن المواطن الحلنجى قادر على إنهاء مصلحته باستمارة مزوّرة أو قسيمة مُزيفة أو ختم مضروب، لذا فهو لن يحتاج لخدماته كموظف، وأن المواطن الغلبان العبيط ـ على حَد قوله ـ لن يُنهى مصلحته أبدًا حتى لو قدَّم له هو خدماته برموش عينيه على حد وصفه، لذا فعليه أن يعيش حياته، فالإنسان لن يمُر بالدُنيا إلا نوبة واحدة يتيمة على حد قوله "أفطر وأدخَّن وأشرب الشاى وأتكلِّم مع الزملاء، وأدينا بنتسلى لحد معاد الانصراف ما ييجى، طب تصدَّق بإيه؟ يحرق أبو الإجازات، أنا بكره يوم الجمعة ده موت، الواحد بيقعُد في البيت زى قرد قَطَع، لا لاقى تسلية ولا حاجة ترفَّه عنه، بالعكس المدام تقعُد تنكد علينا، والعيال يفضلوا يزنّوا ويصدَّعونا، لا بنشرب كوباية شاى عدلة، ولا بنفطر زى الناس، ده الشُغل نعمة والله ربنا يديمها"!
الجريدة الرسمية
عاجل