رئيس التحرير
عصام كامل

الموظفون في البيت!


كانت عقارب الساعة تُشير إلى الثامنة والرُبع، وقد قررت باستنصاح شديد قضاء مصلحتي سريعًا، فقُلت لنفسي أصحى بدري، وأخلَّص المشوار بدري بدري قبل الزحمة، وسألتني إحداهن وهي تقف أمام المدخل الرئيسي للمركز الطبي الحكومي: "عاوز مين يا أستاذ؟" ألقيت عليها باستفساري فكانت إجابتها القاطعة الواثقة كأنها في أولى مراحل برنامج مَن سيربح المليون، عندما يُقدم الزميل (جورج قرداحي) أسئلة تمهيدية ساذجة على غرار: ما هو لون الملوخية الخضراء (أخضرـ أحمر ـ أزرق ـ أبيض)، أو اذكر اسم اليوم الذي يسبق يوم الجمعة أسبوعيًا (الإثنين ـ الثلاثاء ـ الأربعاء ـ الخميس)، وقالت: "تعالى كمان ساعة"، وصَك أذنيّ صوت (جورج) وهو يهتف بظفر شديد: "صار معِك 100 ريـال"!


سألتها بانزعاج شديد، وقد أدركت أن اليوم ركبه عفريت من أوله، إذ ضاع استنصاحي هباءً منثورًا مسحوقًا تحت أحذية زملاء حضرتها: "هو مش المفروض الشُغل بيبدأ الساعة تمانية؟"، وجاءتني إجابتها مُستفسرة مُستنكرة كأنها تتحدَّث مع معتوه: "هو فيه موظف بييجي الشُغل قبل تسعة يا أستاذ؟" كانت الخلطة السابقة كُلها مُطعَّمة بشفقة شديدة وانزعاج أشد تجاهي، إذ كيف يُفكِّر ذلك الساذج - اللي هو أنا بعيد عنَّك - أن موظفًا يصل لمكان عمله قبل التاسعة صباحًا، وعن نفسي فقد صار تأثير العفريت الذي ركب اليوم أشد وطأة على نافوخي، ولم يعُد يكفي لاتقاء الشر التسلُّح بالمزيد من الصبر أو البرود، بل أصبح واجبًا الاستعانة بـ(ريهام سعيد) أو (عمرو الليثي) علشان يشوفوا حَل في هذا العفريت الأزرق ع الصُبح، خاصةً وقد صار حضرته مُهددًا للأمن والسلم الاجتماعيين، وهي جريمة كانت بتطير فيها رقاب زمان، قبل أن تُصبح حاليًا بمثابة الإنجاز الثوري التحرُري بالمُناسبة!

قررت بعد كُل ذلك الحصول على أي فُرصة لالتقاط الأنفاس، ومن سوء حظي أنني لستُ مُدخنًا، فاستبدلت بذلك فُرصة التقاط بعض الساندوتشات من مطعم قريب على سبيل الإفطار الإجباري، وكالمتوقَّع كان مذاق الطعام سيئًا إذ اختلط بالمرارة والغضب والشعور بالاستكراد، وتضاعف كُل ذلك بعدما عُدت للمكان الحكومي الموقَّر فإذا بالحال كما هي تمامًا، باستثناء حضور بعض المواطنين المُتذاكين من أمثالي، وكلمة من هنا وكلمة من هناك، قررت اللجوء فورًا للمُدير، فالأمر في حاجة للحسم الفوري، وكُنت قد أجبت استفسار مُستنكر مُذبهل آخر من إحداهن أو لعلها نفس المُتسابقة في برنامج (المليون)، وقُلت لها: "أنا مش موظَّف علشان أعرف سلو الموظفين إيه"، ومن الواضح أنها لم تسمع إجابتي أو لم تهتم بها، إذ انشغلت في بَرم رغيف عيش بلدي على محتوياته من الطعمية والبطاطس والباذنجان، كوجبة تمهيدية لوجبة الإفطار الأساسية التي سيحين موعدها في التاسعة وخمس دقائق مع باقي زملائها حين يجلسون بالسلامة على مكاتبهم، وفي هذا تفسير مُخلص لكُل مَن يتساءل: "الموظفين بيروحوا شغلهم يعملوا إيه؟!".

ولمَّا بحثت عن المُدير وجدت مكتبه مُغلقًا، كانت اللافتة عليه تؤكد أن هذا هو مقرَّه، وسألت إحدى العاملات النشيطات اللائي حضرن مُبكرًا لإعداد الإفطار والشاي عن حضرته فقالت إنه لم يأتِ بعد، وكانت الساعة قد تجاوزت التاسعة بعدَّة دقائق، وسألتني مُرتابة عن شخصيتي حينما واجهتها بإصرار شديد على التعرُّف على مكانه وأسباب تأخيره، "هو حضرتك عاوز إيه بالظبط؟"، وكانت إجابتي قبل أن أغادرها للخارج "عاوز أفطر معاكم!".

قُرب العاشرة بدأ الموظفون ولاد الحلال يتوافدون على المكان، وبعدهم بدقائق حضر سيادة المُدير في سيارته الخاصة التي استغرق في ركنها وتحضينها بحرص بجوار الحائط في ممر داخلي يُفترَض أنه مُخصص للحالات المرضية ما لا يقل عن رُبع ساعة، عجلة قُدَّام، همسة ورا، شوية ع الجدار، حبَّة بيرفع الإزاز، وبيطمن على قفل الأبواب، وبيشيل التليفون وعلبة السجاير والولاعة والمفاتيح، على ما خلَّص كُل هذا كانت الساعة تخطَّت العاشرة والنصف، وكانت الطعمية بردِت طبعًا!

سأله أحد زملائي المواطنين الساخطين عن موعد فتح شباك التذاكر، فأجابه باقتضاب وهو يهم بالرحيل لمكتبه "زمانها جايَّة"، هُنا يلعب الرجُل دور المُدير المسئول بكُل ما تحمله كلمة المسئولية من معانٍ، لم يُصرِّح بأن موظفة الشباك بصدد تناول الإفطار أولًا، لعل السائل صائم، أو جائع لم يتناول إفطاره بعد، مما يتسبب في تعذيبه وتذكيره بحرمانه، كان الرجُل راقيًا مُهذبًا، لم يشأ إشعال نيران المعدة ولهيب اللُعاب على الصُبح لدى جمهور المواطنين، فاكتفى بهذه الإجابة الإنسانية، وإن كُنت أعيب عليه عدم إضافته لبعض المُحسنات البديعية على سبيل الكمالة الضرورية لرفع الروح المعنوية للمُنتظرين وإفهامهم - كده وكده - أن انتظارهم المرير لا بُد أن يكون ذا جدوى في النهاية، مثل "جاية بعد شوية جايبة لعب وحاجات"!.

في تلك اللحظة قررت الانصراف، لن أشكو للمُدير، أشتكي له إزاي وهو رب البيت اللي بالدُف ضاربٌ بينما الباقون داخوا من الرقص والفول والطعمية والمخلل، كأنهم في زار، كيف ألومه بسبب اختفاء الموظفين من على مكاتبهم رغم أن موعد العمل الرسمي يبدأ في الثامنة، بينما حضرته جاي بعد العاشرة، ولسَّه على ما يفطر ويشرب الشاي والسيجارة ويتكلِّم في التليفون ويبعت يجيب طلبات البيت من السوبر ماركت، ويقوم يفتح شنطة العربية علشان الموظف أو الساعي يحُط فيها الحاجة، ويقفلها ويدوَّر الموتور وينصرف يكون يا دوب معاد الانصراف اللي هو الساعة 12 الظهر جه، وأرجوك لا تتذاكى عليّ وتقول لى إن موعد الانصراف هو الثانية ظهرًا، خاصةً أني عملتها قبلَك في موعد الحضور وكُنت فاكره الثامنة صباحًا، وعلى رأي المثل مبروم على مبروم ميلفِّش، ونصيحة لو حابب تخلَّص مصلحة من موظف روح له البيت؛ لأنه في الشُغل مش بيبقى فاضي للكلام ده!

اقـــرأ أيضــــًا:
الموظفـــون في السمـــاء!

الجريدة الرسمية