رئيس التحرير
عصام كامل

مُتعة «الفوضى.. الحنين إلى الميدان ؟!»


للمرة الرابعة على التوالي يُدعى المصريون للاحتشاد في الميادين، بين مدافع ومهاجم عن ثورة 25 يناير.. تصنيفات عديدة لأطياف الشعب وقواه السياسية.. بين ثائر ومستكين.. وخائن ولاعق بيادة.. وبين مؤمنين وكُفَار.. هذا ما فعلته الثورة بالمصريين.. ومع ذلك لا يَكُف عشاق الثورة عن الدعوة للخروج إلى الميادين، تارة للاحتفال بذكراها، وأخرى لإسقاط النظام!


والغريب في الأمر أن يدخل الدين طرفًا في تلك اللعبة السياسية القذرة، من خلال مؤسساته الرسمية وغير الرسمية.. ففي حين تعتبر الجماعات الدينية المتطرفة النزول إلى الميادين جهادًا في سبيل الله، وأن ميدان التحرير أطهر من "الكعبة" وأزكى من "الحرم".. يُفتي رجال "الأزهر" بأن النزول إلى الميادين خروج من الدين!

وقد تعددت مبررات الدعوة وأسباب الخروج إلى الميادين.. فالبعض يعتبرها ضرورة لإحياء دور"المعارضة" التي قُتلت بين ثنايا البرلمان ولم يوجد لها أثر.. وفريق ثانٍ يعتبرها ضرورة لإحياء مشروع جماعة الإخوان المسلمين الذي تجاوز عمره الثمانين عاما، واستفحل حتى وصل أنصاره إلى قمة الهرم السياسي.. ثم خَرَّ ساقطا على رءوسهم.. والبعض الآخر يخرج دفاعا عن المعتقلين وثأرا للذين قتلوا إبان إسقاط جماعة الإخوان ومحو عهدهم اللقيط.. وفريق "حُر" يخرج للمطالبة بتطهير مصر من الفساد وتنظيف مؤسسات الدولة من أنصار الحزب الوطني، كما تم تنظيفها من "الإخوان" فريق ما زال يحلم بأن يعيش كريما على الأرض، وأن حلمه لا يزال يقظا لم تقتله أزمات الواقع المرير.. ويبقى فريق آخر تَجَذَّر في داخله الإحساس بالمتعة والبطولة.. التي أحسوها وعاشوها أيام يناير الأولى.. وكيف كان البلطجي "بطلا" يجابه السلطة بصوت مرتفع.. وربما تَمَلَكه الوَهم حتى صار بمقدوره أن يصفع ضابطا أو مسئولا كبيرا بـ" كف" يدٍ على القفا!

فكما أن للسلطة "متعة"، فللفوضى أيضا متعتها.. فهي تمنح العابثين متعة أيضا لا تقل كثيرا عن متعة السلطة وتشعرهم بأن للحياة شكلًا آخر لم يجربوه.. يتلخص في"متعة الفوضى"!، تلك المتعة التي يعيشها الإنسان عندما يشعر بأنه خارج المراقبة.. وأنه لا سلطة على تصرفاته.. متعة تظهر آثارها في صورة سلوكيات "هدامة" للفرد والمجتمع.. وربما تمثل "خرقا" غير معتاد، لثقافة المجتمع وعاداته وتقاليده.. سلوكيات عادة لا يحسب عشاق الفوضى عواقبها!

إذن، الجميع لا يفكر فقط للخروج من أجل العيش والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.. فكل يفكر في الخروج لإشباع شيء في نفسه.. إما لمصلحة أرادها، كالانتقام أو الثأر من الدولة، أو لإشاعة الفوضى لتحقيق مصالح شخصية عنوانها "الفساد".. أو لتنفيذ أجندة جماعة إرهابية عَبَّأت جيوبها وعقولها بأموال وأهداف دول متأمرة.. ولكن يبقى تفسير أهم في تصوري إذا أردنا الأخذ بحسن النية.. وهو الاعتياد على "متعة الألم" والذي يتكرر في نفس الموعد من كل عام!

وفي هذا المقال تحديدا، لا أريد الحديث عن الدوافع السلبية الدفينة للخروج إلى الميادين، ولا الخوض في ذمم المتظاهرين والداعين إلى الخروج.. ولا أحاول أن أعرض حجم المغارم التنموية التي تكبدتها مصر من ثورة يناير الأولى، وحتى الآن، والتي رفعت سقف الديون الخارجية إلى بليون دولار.. ولا حجم الأموال التي تهدر لتأمين الاحتفالات بذكرى الأحداث الثورية، والتي قدرتها وزارة المالية بـ100 مليون جنيه، في ذكرى يناير ففط.. ولا عدد الأنفس التي قُتِلَت ولا عدد الأنفس التي ماتت حسرة عليها، من جراء تلك الأحداث والاحتفال بذكراها.. ولا عدد المنشآت التي حُرقت.. والبيوت التي خُرِّبت.

أحاول فقط في هذا المقال الحديث عن الدوافع النفسية اللا إرادية التي تدفع من شارك في أحداث الثورة الأولى إلى أن يشارك في ذكراها.. ولا سيما في نفس الموعد.. إما إحياءً لذكريات عاشها في الميدان بحُلوها ومُرِهَا.. وإما لانتصارات قد حققها.. حينما انتصر على السلطة وكسر شوكتها.. لحظات أشعرت العاطل بأنه "مُنتج".. وأشعرت الثائر الحق بأنه على "حق" وأشعرت البطجي والتافه بأنه "بطل".. حتى وإن كتب التاريخ عنه يوما بأنه من ورق!

ومن هنا فيجب علينا في تحليلنا لدوافع الخروج إلى الميادين ألا نتجاهل الحالة النفسية للراغبين في الخروج.. وأن نُقِر بأن قيامنا بأي عمل عادة ما يخضع لقانون "المتعة والألم".. ومن ثم فإننا لا نقدم على عمل إلا إذا توقعنا أنه سوف يقدم لنا نوعا من أنواع المتعة.. أو لونا من ألوان اللذة.. كل حسب توقعاته، وسواء كان هذا العمل مقبولًا أو سيئًا.. وأن الذات الإنسانية لا تمارس عملا ً إلا إذا شعرت بأن فيه مصلحة أو منفعة أو متعة، سواء كانت هذه المتعة روحية أو نفسية أو جسدية.. وهنا لنا أن نسأل: ما هي المنافع والمصالح والمُتع التي يريدها الثوار من الخروج إلى الميادين؟

والإجابة لا تخرج بعيدًا عن قانون المتعة والألم.. فغالبا ما يقدم الإنسان على عمل بقصد الهروب من "ألم" كان في نظره "سيقع" إذا لم يهرب إلى هذا السلوك!، وبصرف النظر عن "ألم العيش" ومتعة الفوضى، علينا أن نتساءل أيضا: هل "الدولة" على علم بـ"الألم" الذي يهرب منه الشباب إلى الميادين؟ وبالمتعة التي يُعَرِضُون أنفسهم للموت من أجلها؟

الجريدة الرسمية