رئيس التحرير
عصام كامل

عصيان الحملان


استأذن حكيم الحملان الكبش "موزون" في الدخول على رئيس الحملان ومليكها الكبش "معروف"، فأذن له.. ولما مثل بين يديه، قال حكيم الحملان: مولاي الملك "معروف".. أنت تعلم مدى إخلاصي ووفائي لك وتقديري لعزمك وهمتك وكفاءتك.. وتعلم أنني لم أقصدك يومًا لطلب خاص.. وقد جئت اليوم لأنقل إليك حال أبنائك الحملان.. لقد عهدتهم دومًا على قدر عالٍ من الوداعة، بدرجة لا يضاهيهم فيها أحد، لذا يضرب بهم المثل فيقال "إنه كالحمل الوديع".. لكنهم اليوم - على غير العادة - في حالة من التذمر والعصيان والتمرد، بل من العدوانية غير المسبوقة.. فهم رافضون كل شيء.. لعلك يا مولاي قد لاحظت أنهم، خاصة الحملان الصغيرة، لم يحضروا مؤتمرك الذي دعوت إليه، مع أنك ما دعوتهم يوما إلا ولبوا الدعوة.. لقد أرسلوا إليك رسالة لعلك فهمت مضمونها، وأنت العاقل اللبيب..


هم يشكون قلة المراعي، بل إن أي مكان يذهبون إليه يجدونه قفرا.. خرابا يبابا.. تعبت سيقانهم من الحركة هنا وهناك وخاب أملهم دون جدوى.. لم يعد هناك كلٌّ.. فالماء الذي كان يجرى في أوديتنا ما عاد يتدفق كما كان يحدث في السابق.. وقد سمعنا أن هناك من يسعى للحد من تدفقه.. ثم إن المطر عندنا - كما تعلم - شحيح، خاصة على مراعينا في الجنوب.. حتى عندما يهطل المطر، لا ندري كيف نستفيد به، بل يسبب خسائر كبيرة.. المهم أنه نتيجة لذلك جف الضرع، ولم يعد هناك لبن للصغار التي باتت تئن من الجوع.. الحملان نفسها أصابها الهزال.. حتى أصواتها ذاتها أصابها الوهن..

صمت قليلا ثم قال: مولاي الملك.. لقد اخترناك ملكا علينا بحر إرادتنا، رغم حقد الحاقدين وكره الكارهين.. استبشرنا بك خيرًا، وقلنا إنه على يديك سوف تنتهي مآسينا ومتاعبنا... وقد كنت فينا - وما زلت - محبوبًا ومطاعًا، ولا ننسى حديثك الهين اللين الذي يقطر عطفا وحنانا.. نحن لا نعدل بك أحدا.. ونعلم - عن يقين - أنك تحبنا كما نحبك، وتتمنى لنا الخير كما نتمناه لك.. ورغم الهم الذي طالنا والبؤس الذي لم يغادرنا، فإننا صابرون محتسبون، بل راضون.. لكن الذي أقض مضاجعنا وأقلق راحتنا، هذا السلوك السيئ والتصرف الرديء الذي يصدر عن بعض الحملان التي تبدو وكأنها تتحرك في حمايتك وتحت رعايتك..

نرى تلك الحاشية من حولك وقد علت أصواتها، وامتلأت أردافها، وتدلت "لياتها" فلم تعد تستطيع السير إلا بصعوبة بالغة.. فتزداد حيرتنا وتساؤلاتنا: كيف يسكت مولانا "معروف" على هذه الفئة؟.. البعض قال إنك تبكي وتنتحب من أجلنا في السر، وإنك تحاول إخفاء ذلك حتى لا تتأثر نفسية الحملان.. هو شعور طيب ولا شك، ونحن - من جانبنا - نشكرك عليه.. لكن يا مولاي حال أبنائك الحملان يصعب حتى على الذئاب.. أصبحوا يرتابون - والريبة ليست من طبعهم - في أنك تشهد كل ذلك ولا تحرك ساكنًا، وكأنك مبتهج به راضٍ عنه.. الحملان يا مولاي ينتظرون منك موقفا حاسمًا.. هم على استعداد للصبر والتحمل لما أصابهم، وأن ينسوا فاقتهم وهزالهم، شريطة أن تصارحهم بما يجرى.. أن تكون هناك شفافية.

ظل "معروف" مطرقًا برأسه، صامتًا لا يتكلم.. وقبل أن ينتهي "موزون" من كلمته، انبرى أحد الحملان للرد عليه، فقال: أنا في غاية الدهشة لموقف الحملان.. يبدو أنهم نسوا أن مولانا الملك "معروف" - بحسن سياسته وتدبيره - أنقذ أرضنا وقطعاننا من فصائل الذئاب، التي تعيث في الأرض فسادًا من حولنا.. ولولا حكمة مولانا، لكانت أوضاعنا الآن بالغة السوء.. ثم أن مولانا لا يكف عن التحرك يمينا وشمالا، شرقًا وغربًا، ولم يترك صديقا لنا - يعلم أنه على استعداد لمساعدتنا - إلا واتصل به وتحدث معه، فأنتم تعلمون جيدًا أن الحياة يلزمها النور والدفء والقدرة على الحركة والانتقال من مكان إلى آخر، فضلا عن توفير بعض الطعام الذي يعين على استمرار الحياة..

صحيح أن أثمان هذه الأشياء غالية، وفوق القدرة الشرائية للمطحونين من الحملان.. وصحيح أيضًا أن المشافي في حالة يرثى لها، وأن المرضى من الحملان لا يجدون علاجًا.. وصحيح كذلك أن الكثيرين لا يجدون عملا يرتزقون منه.. لكن مولانا يعمل أقصى ما في وسعه.. رد الحكيم "موزون" قائلا: لست ممن يجهل ذلك، وأعترف ويعترف معي الحملان بالدور الذي قام ويقوم به مولانا "معروف"..

لكن ليس معنى هذا أن نصمت على أوضاعنا البائسة، أو أن نقبل بفساد يستشري بين ظهرانينا.. نحن نعترف بأن هذه الأوضاع البائسة جاءت نتيجة تراكمات عهود سابقة، وبأن مولانا ليس مسئولا عنها، لكننا نرى من حاشية مولانا من يدفع بقوة في اتجاه هذه العهود الظالمة والفاسدة، وهذا غير مقبول، ومن حق أبنائه الحملان أن يقلقوا وأن يعبروا عن مخاوفهم.. خرج "معروف" عن صمته، وقال: أعد أبنائي بأن كل شيء سوف تمتد إليه يد الإصلاح والتغيير، فقط أحتاج إلى مهلة لكي أفعل ذلك.. وسوف أكون عند حسن ظنهم، وسوف يسمعون في الأيام القادمة ما تقر به أعينهم.. نهض الحكيم "موزون" واستأذن في الانصراف، وقد ارتسمت على وجهه علامات تشي بعدم الرضا والارتياح، فما يجرى على أرض الواقع ينذر بما لا يحمد عقباه..
الجريدة الرسمية