رئيس التحرير
عصام كامل

أنا الوطني العميل !


هذا العنوان اعتراف يسطره تاريخ مصر المعاصر دون أن نجمله أو نروج له أنه واقعنا المؤلم، فقد كشف القبض عن مسئول كبير وآخرين بتهمة الرشوة عنوانًا كبيرًا كاشفًا عن منظومة فساد أعظم إصابة الأمة والمجتمع في أخلاقها شارك في دعمها منظومات مساندة حادت عن دورها الحقيقي فكانت مخراجاتها داعمة للفساد من التعليم إلى الإعلام، وتغييب القانون عمدًا وتبني ثقافة عولمة تدعم القيم المادية ناهيك عن الأسرة المفككة تحت ضغوط حياتها المعيشية هذا غير غياب القدوة، وكلها تجمعت في شخص لتكون نموذجًا للعمالة في أشكال وصور وأنواع عديدة.


العَمالة بفتح العين المقصود بها عميل لدولة لكن تطورت بعد الحرب العالمية والتوحش المبكر للرأسماية ليتسع نطاقها لمؤسسة أو لشركة أو لهيئة أو لرجل أعمال وغيره، وهي بين طرفين العميل يقديم خدماته في شكل معلومات وتسهيلات إجرائية من خلف ظهر القانون أو باستخدامه إن سمحت مواده، ولحساب طرف ضد آخر، حتى لو كان هذا الآخر هو الدولة بمفهومها الواسع والعمالة مرادف للخيانة ونقيض للأمانة والولاء أي أن العميل يبيع ولاء لوطنه للغير ولمن يدفع أكثر.

حديثي عن عميل من نوع آخر، سوف يتم تشخصيه لأنه حالة سيكولوجية بعد أن نوصفه دون تنظير، فالخائن القديم الحديث هو طرفي عملية العمالة في شخص واحد وهي حالة منتشرة عالميًا يحاول البعض وصفها وبيان سببها من مرادفات منها الأنانية المطلقة، وسبلها غير أخلاقية وغير شرعية بطبيعة الحال.

وهذا العميل هو الفعل والفاعل، والهادف والمستهدف لذا يمكن نعتها بالخيانة فهي عملية كاملة الأركان لكنها ذاتية التكوين، فالعميل في حالتنا هذه يدير دولة نفسه بنفسه ولنفسه، ويخون نفسه لصالح نفسه، وفي منهجه أنه أولا وعقله منذ نشأته الأولى (مكيافيلي) رغم أنه لم يقرأ عنه أو يدرسه.

شهدنا هذا النموذج في الكثير خاصة في أقطاب الوطنية المصرية المزيفة من رموز في الحزب الوطني (غير الديمقراطي) المنحل والذين يعد تداول اسمه إهانة للوطنية التي إرادةا المؤسس الأول للحزب الوطني الزعيم مصطفى كامل، فأغلب رموز الحزب الوطني المنحل كانوا يتسوقون بالوظيفة ويزعمون مكافحة الفساد، وهم من أكبر رموزه، وعندما كنا نستمع إلى أحد منهم تحت قبة البرلمان من أن الفساد للركب كان هو ورفاقه بالحزب غارقين فيه للأذقان كان شعارهم مصر أولا، بينما الحقيقة أنه هو وأسرته وحاشيته قبل مصر وشعبها المغلوب على أمره.

شهدنا وزراء ومناصب عليا في دفاعهم الصوري عن النظام الذي اختزل في منصب الرئيس مبارك والقتال بضراوة ضد كل من يعارضه، كان ذلك بهدف الحفاظ على مواقعهم ومصالحهم المشتركة، لذا كان الوطني العميل هو الأفضل للبقاء أطول فترة ممكنة في منصبه الوظيفي والوزاري، والنماذج لا حصر لها في كل موقع في الحكومة من وزارة، وهيئة، ومؤسسة، حتى المدرسة.

أما مجلسا الشعب والشورى والمؤسسة الإعلامية فحدث ولا حرج ورغم خطورة هذا النموذج من البشر على المجتمع والوطن فإنهم كانوا من أسباب الثورة في الموجتين؛ لأنهم أصيبوا بحالة من الذهول أفقدتهم السيطرة حتى على المنطق والعقل فقرر الغالبية منهم (التشرنق الوطني حتى تتضح الرؤيا ليرتدى ثوب النظام الذي تغلب كفته)، ومن أهم دعاوى هؤلاء العملاء أنهم بشروا بالثورة وسعوا من أجلها وكانوا في الميادين، نفس سيمفونية الأباطيل التي عزفوها طوال علاقة ثلاثة عقود وعام واحد للإخوان.

تغير فيها الشعار من أنا مصرى أولا إلى الإسلام أولا وأصبحنا أمام عميل "نيو لوك" زبيبة في الجبهة ولحية مهذبة وجلباب قصير، لقد تأسلموا مع المتأسلمين وتثوروا مع الثوريين، وروجوا أن البلاد في حاجة لحزب يقوده الرئيس، وهو ما كانوا يريدونه للعودة بمصر للوراء وعندما فشل مشروعهم، بدءوا يجهزون أنفسهم للتحليق في مجلس النواب القادم.

ما سبق قليل من كثير لبعض سمات عملاء الذات الذين كانوا يبحثون عن فرصة في كل حين لتقديم الولاء لعميل أكبر منهم قوة وقدرة، ومن ذكاء هذا العميل أنه يضع نفسه في سلسلة العمالة الوطنية مهما كانت رايتها يسارية أو يمينية، إسلاموية أو ليبرالية، ديمقراطية أو شمولية، أي أنه حلقة من سلسلة حلقات العمالة (المتطابقة تمامًا مع فساد النفس) وسقوطه في جولة ليست نهاية المطاف، كما ليست بقضية فهناك ما يسمى جراحة فساد الظرف الواحد بمعنى أنه دائمًا حلقة جاهزة للصعود والدخول في دورة جديدة من الفساد في حلقة جهنمية لا تنتهي وبما يتلاءم ويتناسب مع مناخها، والتفاني من أجل رضا العميل الوطني الأول، وهو من على قمة هرم الفساد الوزارة أو المؤسسة أو المحافظة. 

لقد تكسرت العديد من حلقات ربط سلسلة العمالة والفساد إثر ثورتي يناير ويونيو، إلا أنه كانت هناك رؤية جديدة لمن زعموا أنهم شاركوا فيها لتبدأ حلقة جديدة من سلسلة العمالة الثورية.

إن قرار قبول استقالة حكومة محلب جاء مناسبًا لتهدئة الرأى العام؛ لأنها حكومة تورط رموزها في قضايا فساد وعجزت عن تنفيذ أحكام القضاء بشأن تصحيح الأوضاع مع مافيا الأراضي ومراجعة عقودها وفق القانون، فالتهم الفساد الحكومة كاملة لتسقط، لكن المشكلة باقية ما هي المعايير التي على أساسها يرشح وينتقى كبار المسئولين في الدولة تلك هي المعضلة التي ينبغي أن نبحث لها عن حل.

وفي النهاية أتقدم بالشكر الجزيل إلى الأجهزة الرقابية؛ لأنها أعلنت عن سياستها التي من أجلها تأسست حفاظًا على المال العام فقد استعادوا هيبتهم وإرادتهم بعد أن غلتها حكومات سابقة إنهم جنود مجهولون يعملون في صمت، لقد أصابو (مكيافيلي) وكل تابعيه ومؤيديه ومروجي أفكارة في مقتل، ولكني أحذر فموت الفساد عادة إكلينكيًا لا يلبس أن يتعافى ويخرج علينا من بثوب ووجوه جديدة وأساليب لها تقنياتها وقوانينها وحربنا معه لن تنتهي بسهولة لأنها جريمة منظمة بكل ما تحمله من معنى ومغزى، فمصر مستهدفة من الداخل أكثر من الخارج، حفظ الله مصر..
الجريدة الرسمية