رئيس التحرير
عصام كامل

لماذا رحل اليهود عن حارتهم ؟!

حارة اليهود
حارة اليهود

أن تُقَدِّم عملًا دراميًّا لفترة زمنية محددة مع الاحتفاظ بعرض أدق تفاصيل المرحلة وأن تتحسس أناقة فترة الخمسينيات، وصدق الأداء عبر شاشات التليفزيون، وأن ترحل مع عينيك إلى أحداث سياسية واقتصادية واجتماعية نحتت وجهها بكف تاريخ الدولة المصرية؛ يمكنك الوقوف بكل استقامة لكي تمتدح ذلك البساط السحري الذي سافر بكيانك المادي إلى حيث الحارة المصرية التي يحيا على أرضها اليهودي جنبًا إلى جنب مع المسلم، والمسيحي والتي يحيا على أرضها المسلم المُعتدل بجوار صاحب الفكر المتطرف.


حارة؛ تحكي قصتها المنقوشة على وجوه أبطالها، تعد حارة اليهود عملًا فنيًّا؛ صافح نجم الدراما المتألق في توقيت قلت فيه العناصر الإبداعية للعمل التليفزيوني، ويعد العمل واحدًا من أهم أعمال الكاتب مدحت العدل.

تنقلك "حارة اليهود" إلى تلك اللوحة الدرامية التي يبحث خلالها المصريون عن وطنهم، يختلفون، يتشاجرون، ويتعصبون، لكنهم يجتمعون على القضية الوطنية.

قدم مسلسل "حارة اليهود" الاختلافات الدينية، والمذهبية والطائفية بصورة وإن لم تكن مُبتكرة، ولكنها مميزة، وبرغم عدم خلو العمل الدرامي من تلك الحوارات الفرعية التي تتحدث بلهجة تقليدية اعتادت عليها السينما والتليفزيون منذ قديم الأزل والتي تدور حول أننا أبناء شعب واحد، وأنه لا مجال تمامًا لتعصب دين على دين آخر.

وإن كانت هذه الحوارات لا جديد في طريقة طرحها على المشاهدين، إلا أنها جاءت مُلبية لرسالة العمل الدرامي، ولم تمِل إلى المبالغة.

تناول المؤلف القضية الأكثر إثارة للجدل، وهي نبذ اليهود في المجتمع والعلاقة بينهم وبين المسلمين والمسيحين في فترة من فترات التاريخ بالدولة المصرية، مع الأخذ بعين الاعتبار الخلفية السياسية، والاجتماعية لهذه المرحلة الحساسة مع التعرض لأهم القوى والانتماءات السياسية، والدينية آنذاك.

استطاع هذا العمل التليفزيوني ذو الطابع الفني الخاص أن يأمر المشاهد بالتوحد مع أبطاله فهناك من انتصر لحق اليهودي الوطني في المعيشة الكريمة على أرض مصر، وهناك من أدرك ذاك الفرق الشاسع بين اليهودي والصهيوني، وهناك من بكى تأثرًا بالحب العُذري بين الضابط المصري "علي"، والفتاه اليهودية "ليلى"، وهناك من سخط على قوى التطرف الفكري، والإرهاب الديني، وهناك من أدان خيانة من تعاون مع الكيان الإسرائيلي الصهيوني.

تسعة وعشرون حلقة درامية تحاول جادة ترسيخ العلاقة بين الأديان الثلاثة، والتأكيد على أن اليهود أناس يستحقون الحياة كغيرهم، فهم ليسوا قومًا منبوذين ما داموا مُحبيين عاشقين لهذه الأرض الطيبة.

تسعة وعشرون حلقة درامية تقول في كل مشهد إنساني لائق إنه من حق كل إنسان أن يحب ويحيا دون أن تلاحقه سهام العنصرية إلا أن الحلقة الأخيرة وهي ما اُختُتِمَ بها العمل الدرامي أتت مناقضة لما حاول المسلسل قوله في الحلقات السابقة وتسليط الضوء عليه.

فإذا بخاتمة العمل تقدم لنا رحيل تلك الأسرة المصرية اليهودية؛ والتي هي رمز لليهود المصريين الذين يلقون عنصرية، وتفرقة في التعامل من باقي فئات الشعب مسلميه ومسيحييه؛ مما يُنقصهم جانبًا من حقوقهم التي حَق لهم الحصول عليها.

فإذا برحيل الابن الأصغر "موسى"، وأمه إلى إسرائيل؛ نظرًا لخيانة هذا الابن وارتباطه بأحلامه، وارتباط أمه المرضي به وإصرارها على الرحيل معه، وترك زوجها وابنتها الوحيدة.

ولم يتوقف الرحيل عند رحيل الأم وابنها فقط، بل امتدت يد الموت إلى الأب اليهودي "هارون" الذي لم يحتمل فراق زوجته، ولم يُصَدق في كونها فارقته، ومات كمدًا!، وإذا به يترك ابنته "ليلى" وحيدة، فهل ترحل ليلى هي الأخرى؟، ولا يتبقى من الأسرة اليهودية فرد في حارة اليهود؟! وهل ينتصر الضابط المصري "علي" لإرادة حبه لليلى ويتزوج بها، ويحصل على موافقة قادته في الجيش المصري؟

وبذلك يُعَزز المؤلف العلاقة بين المسلم واليهودية بطريقة تخترق كل الحواجز وهي الحب، كما عززها التاريخ وقصصه منذ قديم الأزل؟!

جميعها بذور أمل كانت تختبئ في ذهن المتلقي وتبحث عن إمكانية جني ثمار ذلك العمل بخلق حالة فعلية من التوحد مع هذه "الأقلية" التي تُعامل مجتمعيًّا على أنها كذلك!

وكانت خاتمة العمل مُخَيبة لتلك الصورة القادرة على توجيه الجمهور ودفعهم للالتفاف حولها؛ حيث انتهى العمل برحيل الفتاة اليهودية العاشقة هي الأخرى! رحلت "ليلى" وهي تودع بعينيها وذاكرتها منزل أسرتها العتيق، ومحل أبيها اليهودي الوطني.

وأما عن مصير هذا العشق الذي ربط بين "ليلى" و"علي" فاختصره المؤلف بخطاب بعثت به الأخيرة لحبيبها لتخبره حقيقة أن حبهما مستحيل وأن أملهما الوحيد أن يلتقيا بالعالم الآخر، وكأنه كان أمرًا مستحيلًا حقًا، ولم يزخر التاريخ بنماذج من المسلمين الذين تزوجوا يهوديات!

وربما برر المؤلف هذا بحصول الضابط المصري "علي" على موافقة قادته على زواجه من ليلى بعد أن كانت غادرت البلاد.

انتهى العمل الفني برحيل الأسرة اليهودية النموذج بكل أفرادها لم يتبق منهم أحدًا، ليعطي أملًا لليهودي المصري بأن له الحق في العيش كمواطن عادي! وكأنها رسالة من العمل بأن اليهود لا حل لهم سوى الهجرة أو الموت أو الهروب، وهنا نعود لسؤالنا السابق:
أين نحن من قضيتنا الأساسية؟ أين نحن من التوحد ضد العنف ونبذ العنصرية؟

لقد بدأ العمل باستعراض أزمة اليهود وكونهم يعانون ويلات العنصرية رغم اندماج عدة نماذج إسلامية ومسيحية معهم وها هي النهاية تُقدم لنا صورة لرحيل اليهود بشكل "رمزي" وكأنه ما من أمل لانصهار شعوب الديانات الثلاثة في بوتقة واحدة!!
الجريدة الرسمية