رئيس التحرير
عصام كامل

النقشبندي.. إبداع بلا شطآن

النقشبندي
النقشبندي

للصوت الندي سلطانه على النفوس، فما بالك بصوت عذب يلجأ إلى أندى الأصوات في أسفارها حتى ينشد لها من روائع البيان حتى تطرب الإبل.. إنه الشيخ سيد النقشبندي مبدع فن الابتهالات بلا منازع، لقب بالشيخ الخاشع حيث كان أول من أنشد التواشيح الدينية والابتهالات والمدائح معًا كما وصفه البعض بـ"الظاهرة الصوتية" والبعض الآخر وصفه بـ"اللحن الملائكي".


على الرغم من رحيله عام 1976 وتطورات الزمن المتلاحقة فإنه ما زال يسكن القلوب والآذان، فكان من أشهر من صافح آذان الملايين وقلوبهم خلال إفطارهم وسحورهم بأحلى الابتهالات التي كانت تنبع من قلبه قبل حنجرته فتسمو معها المشاعر الدينية، فعلى الرغم من مرور السنوات فإنها لم تستطع محو صوته من ذاكرة محبيه.

يعد الشيخ النقشبندي من أروع الأصوات التي قامت بتقديم الابتهالات الدينية والتواشيح، استطاع بصوته الندي وخشوعه وإحساسه بالكلمات التي يتغنى بها أن ينقل فن التواشيح والابتهالات من أروقة الصوفية وزواياهم إلى آذان المسلمين جميعًا، وأن يوجد جمهورا كبيرا لفن الابتهال والتواشيح تجاوزت حدوده الثقافة والمكان بل الدين أيضًا؛ فكان الرجل أشبه بالظاهرة الصوتية منه إلى مبتهل يقول ما عنده ثم يمضي.

عندما يستمع المرء إلى صوت الشيخ النقشبندي ينطلق إحساسه إلى أعناق السماء وتطير روحه بلا أجنحة سوى أجنحة الحب الصوفي الذي استطاعت الكلمات المحملة بالمشاعر وجودة صوت النقشبندي وقوته أن ترفعه إلى تلك الآفاق البعيدة.

كان النقشبندي مقرئًا للقرآن في محافظة الغربية بدلتا مصر، وكان مشهورًا بالابتهالات الدينية داخل محيطه الإقليمي، وذاع صيته في تلك المحافظة، وكان قريبًا من محافظةا الذي كان يستدعيه في بعض السهرات الصوفية للإنشاد، فبصوته الرائع كان يهيم بصوته في مدح النبي صلى الله عليه وسلم؛ حتى إن المارة في الطريق كانوا يتزاحمون للاستماع إلى هذا الصوت الفريد في معدنه وأدائه؛ فكان صوته يروي الآذان والقلوب العطشى إلى ذلك الحب الإلهي.

حقق صيتا كبيرًا في العالم الإسلامي حيث زار العديد من إقطاره على رأسها دول الخليج وسوريا وإيران وعدد من دول المغرب واليمن، وفي الستينيات ذهب لأداء عمرة، وشدا بصوته بابتهالاته وأناشيده، وتصادف مرور مجموعة من المعتمرين الجزائريين المتعصبين فأوسعوا النقشبندي ضربا، ولولا دفاع مجموعة من المصريين عنه لكان في الأمور أشياء أخرى.

كما ترك تراثا كبيرا من الإنشاد ما زالت حتى اليوم غالبية الإذاعات العربية تذيعه خاصة في رمضان، وله بعض الابتهالات باستخدام الموسيقى، ونظرا لروعة إنشاد النقشبندي وقوة تأثيره في نفس مستمعيه قامت إحدى المخرجات المصريات بإنتاج بعض من ابتهالاته في رسوم كرتونية للأطفال حتى يتعايش هؤلاء الصغار مع هذه الظاهرة الصوتية والشعورية.

كما أثرى الشيخ النقشبندى مكتبات الإذاعة بعدد ضخم من الابتهالات والأناشيد والموشحات الدينية، وكان قارئًا للقرآن الكريم بطريقة مختلفة عن بقية قراء عصره، كما أحيا مئات الليالى في معظم الدول العربية.

مثل النقشبندي جوهرة المناجاة للخالق والدعاء له فقد شارك فيه بعض من قراء القرآن الكريم، ثم أصبح له رواده.

ويلاحظ أن الإنشاد الديني كان مدخلا للبعض للدخول إلى عالم الطرب، وعلى رأسهم السيدة "أم كلثوم"، وكانت حلقات الإنشاد أشبه بالمكان الذي يصقل الموهبة؛ فهذا الفن بوجه عام يحتاج إلى ذوي النفس الطويل، والتدريب المتواصل على التحكم في النفس وطبقات الصوت في أثناء الإنشاد.

تعود بداية شهرته إلى إحياء الليلة الختامية لمولد الإمام الحسين رضي الله عنه، في إحدى الليالي عام 1966 التقى صدفة مع المذيع المعروف أحمد فراج الذي سجل معه حلقتين في برنامج في رحاب رمضان أنشد خلالهما أناشيد وابتهالات، ثم أخذ صوته يسري في المحطات الإذاعية العربية، وفي عام 1967 عرض الإذاعى مصطفى صادق على رئيس الإذاعة محمد محمود شعبان بابا شارو اقتراحا يتضمن أن تقدم الإذاعة دعاءً يوميًا في شهر رمضان يكون بصوت جميل عقب أذان المغرب، فقدمه بصوت الشيخ النقشبندى، وأصبح منذ ذلك اليوم ملمحًا من ملامح الشهر الكريم.

"يا ليلة القدر.. يا ليلة في الشهر.. خير من ألف شهر.. يزهو بها رمضان.. قد شرفت في الشهر.. يا ليلة القدر".. ويدعو "أنا أمة غفت وهبت ثانيا.. وجموعنا وحشودنا تدعوك ربي هاديا.. بارك لنا فيما جنينا.. وأجلو الطريق لناظرينا.. وافتح كنوزك في يدينا.. وأعل وارفع ما بنينا" كلمات حفرت في الآذان وتناقلتها الأجيال إلى يومنا هذا، وامتزجت كلمات "مولاى إنى ببابك قد بسطت يدى.. من لى ألوذ به إلاك ياسندى".

لم تتوقف حياته عند الإنشاد الديني وتلاوة القرآن فقط ولكن أيضًا يحفظ مئات الأبيات الشعرية للإمام البوصيرى وابن الفارض، وأحمد شوقى كما كان شغوفا بقراءة الكثير من مؤلفات المنفلوطى والعقاد وطه حسين، تعلم الإنشاد الدينى في حلقات الذكر بين مريدى الطريقة النقشبندية وهى طريقة صوفية تلتزم في حلقاتها بالذكر الصامت بالقلب دون اللسان وكان والده الشيخ محمد النقشبندى هو شيخ الطريق وكان عالما جليلا نسبت لاسمه الطريقة النقشبندية.

لقب بالعديد من الألقاب من بينها قيثارة السماء والصوت الملائكي والصوت الخاشع والكروان الرباني وإمام المداحين، كان يهيم بصوته في مدح النبي صلى الله عليه وسلم حتى إن المارة في الطريق كانوا يتزاحمون للاستماع إلى هذا الصوت الفريد في معدنه وأدائه فكان صوته يروي الآذان والقلوب العطشى إلى ذلك الحب الإلهي.

احتل النقشبندي مرتبة عالية في قلب الرئيس الراحل محمد أنور السادات فكان من المغرمين بصوته، فعندما يذهب إلى قريته في ميت أبو الكوم يبعث إلى النقشبندي لينشد له ابتهالاته في مدح النبي، وكان النقشبندي من بين أحد 5 مشايخ مقربين من السادات منهم الشيخ محمد متولي الشعراوي، والشيخ عبد الحليم محمود.

هناك إجماع من خبراء على أن صوت الشيخ النقشبندي من أعذب وأروع الأصوات التي قدمت الدعاء والإنشاد الديني، حيث يتكون صوته من 8 طبقات وتتأرجح عذوبة وروعة صوته بين طبقات "الميترو سوبرانو.. والسبرانو".

حصل الشيخ على مجموعة من الأوسمة والنياشين من مجموعة من الدول التي قام بزيارتها، وعقب وفاته كرمه السادات عام 1979 فحصل على وسام الدولة من الدرجة الأولى، وأطلقت محافظة الغربية التي عاش فيها أغلب عمره اسمه على أكبر شوارعها في مدينة طنطا.

كما يعد موقع "النقشبندي" من أبرز المواقع في الإنشاد بلا منافس حيث تحتل ابتهالاته مكانًا في وجدان المسلمين على اختلاف طبقاتهم وانتماءاتهم، فقليلو الحظ من الثقافة يهيمون مع صوته، ويرتفعون به، ويحلقون بعيدًا في بحور محبة الخالق ومحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وكانت الحفلات التي يترنم فيها بصوته وإنشاده العذب مجتمعا للمحبين على اختلاف انتماءاتهم، ويبقى صوته إلى يومنا هذا هو الصوت الذي تستيقظ معه الأعين لصلاة الفجر طوال شهر رمضان، ويستمر تكريمه عامًا بعد عام كأعظم المنشدين الذين تركوا أثرًا لا يمكن نسيانه، ورحل النقشبندي عن عالمنا في 14 من فبراير عام 1976 عن عمر يناهز 56 عامًا.
الجريدة الرسمية