رئيس التحرير
عصام كامل

عبد الحكم الجراحى


"عندما يموت أحد المتظاهرين تكون المشكلة الكبرى أمام السلطات هى أن تنتهى الجنازة بأقل قدر ممكن من الاضطرابات، وقد نجح البوليس فى تلافى القلاقل الخطيرة فى كل الحالات عدا حالة واحدة، وكان الاستثناء الوحيد هو حالة محمد عبد الحكم الجراحى الذى توفى فى 19 نوفمبر 1935".

وردت تلك الكلمات بالأعلى فى أول تقرير أمنى يكتب عن الحركة الطلابية فى مصر، وإن كان قد كتب باللغة الإنجليزية – بواسطة بشتلى أفندى من القسم المخصوص بوزارة الداخلية (أمن الدولة).

فبعد أن سقط محمد عبد المجيد مرسى مضرجا بدمائه على كوبرى عباس برصاص الجيش البريطانى سقط العلم المصرى أرضا، فأبى محمد عبد الحكم الجراحى إلا أن يحمل علم مصر عاليا، حتى وإن كان الثمن أن يرقد شهيدا بجوار صديقه، تقدم عبد الحكم ورفع العلم وصدرت على الفور التهديدات من الضابط الإنجليزى بإطلاق النار، وتقدم عبد الحكم ولم يعر التهديدات أدنى اهتمام، وكان المقابل لثلاث عشرة خطوة تقدمها ثلاث عشرة طلقة استقرت فى أنحاء جسده.

 يذكر أن عبد الحكم التحق بالجامعة فى العام نفسه، وكان قبل ذلك بجامعة جرينوبل بفرنسا، حيث يقيم بعض أقربائه، لكنه فضل الدراسة فى مصر، ونظرا  لهذا الحب وتلك الرومانسية التى تمتع بها عبد الحكم فهو بالتالى لم يكن يتوقع أن يطلق الجنود النار، وهذا مصداقا لمقولة "إن الثورة يبدؤها حالم ويقودها مجنون ويستفيد منها انتهازى"، وكان عبد الحكم هو الحالم الذى بدأ الثورة، وانطبعت تلك الشاعرية أيضا فى شعره، رغم أنه لم يكن غزيرا نظرا لموته المبكر، فعبد الحكم له قصيدتان منشورتان في مجلة «أبولو» هما: «حجرت الأولى» - أكتوبر - 1934- «الشيخ النائم فى المشرب» - نوفمبر – 1934.

كان المشهد السياسى المصرى فى أوج اشتعاله نظرا للمطالبة بعودة دستور 1923 الذى كان من أهم نتائج ثورة 1919 والذى قام إسماعيل صدقى رئيس وزراء مصر بإلغائه فى عام 1930 واستبداله بدستور 30 الذى اعتبره الشعب نكسة لمكتسبات ثورة 19، وفى عام 1935 خرج الطلاب من الجامعة فى مظاهرات حاشدة، وكان سقوط عبد المجيد مرسى وعبد الحكم الجراحى ومن بعدهم على طه عفيفى - الذى سطر الأديب نجيب محفوظ عنه إحدى رواياته ( القاهرة 30 ) – الوقود الذى زاد من حمى الانتفاضة الطلابية، ولم ينتهِ الحالم عبد الحكم من آماله التى عقدها من أجل مصر بسقوطه مدرجا فى دمائه هو الآخر على كوبرى عباس، فقد حمل على الأعناق إلى القصر العينى، وحاول الأطباء إخراج رصاص المستعمر من جسده، غير أن عبد الحكم أيقن أنه ما من مفر، فسطر بدمه على حائط المستشفى كلمات من نور كانت شرارة كل الثورات الطلابية من بعد، حيث كتب: "إلى المستر روح الشر، رئيس وزراء إنجلترا، أنا الشهيد المصرى عبد الحكم الجراحى، قتلنى أحد جنودكم الأغبياء وأنا أدافع عن حرية وطنى. عاشت مصر.. الشهيد المصرى عبد الحكم الجراحى".


ويظل عبد الحكم شعارا يردد فى المظاهرات حتى 1954، حيث يقول الطلبة فى هتافاتهم (عبد الحكم رفع العلم ، عبد المجيد عاد من جديد) ، ومات الحالم عبد الحكم، إلا أن الحلم يبقى، ويعود ليحيى فى خالد سعيد وسيد بلال ومينا دانيال وجابر صلاح. والإنتهازى أيضا باق، لكن الآن "بجلابية ودقن" فمعركة الدستور من المعارك القديمة جدا، لكن دائما وأبدا ما يفشل فيها المحتل وتعود الأرض للمواطنين الأصليين!

الجريدة الرسمية