رئيس التحرير
عصام كامل

500 جنيه ثمن "تغريبة" القطن المصري


لم يكن الموظف الصغير في وزارة الزراعة عام 1994 على دراية كاملة بما يدور في خلد اليهود لمصر والمصريين، كي يرتاب من عرض مغرٍ يساوي راتب 40 شهرا لوظيفته المؤقتة آنذاك، حيث عرضت عليه امرأة مصرية عشرة آلاف جنيه ثمنا لـ 2 كيلو فقط من بذرة القطن، من صنفين (كيلو لكل صنف).


المصرية التي كانت مهتمة بالزراعة المصرية، أعطت الموظف الصغير عينة لا تزيد على عشرة حبوب، من كل صنف، ووضعت أمام عينيه مكافأة عشرة آلاف جنيه.

عشرة آلاف جنيه عام 1994 كانت تشتري قطعة أرض مساحتها 300 متر في أكثر مناطق مصر ربحا في مجال الاستثمار العقاري، أو شقة محترمة في مدينة الإسكندرية، وربما في أي من تجمعات القاهرة الجديدة، أو سيارة من نوع جيد، تصلح نواة لواحدة من السيارات الفارهة مع مرور الزمن، أو كانت تجنبه على الأقل ركوب أوتوبيسات النقل العام، والمشي يوميا خمسة كيلومترات على الأقل كي يصل عمله في ديوان عام الوزارة.

كانت الريبة والعرق الذي تصبب من جسد الموظف الصغير، وقودا حمله كمكوك أرضي إلى يوسف عبد الرحمن أحد أهم المهندسين النشطين في الوزارة آنذاك، الذي أصبح اسمه أشهر من نار على العلم قبل عام 2004، حين ارتبط اسمه بقضية فاسدة عرفت باسم "المبيدات المسرطنة".

بدوره، لم يتوان يوسف عبد الرحمن، حيث كان الليل قد حل، فحمل الموظف الصغير في سيارته واتجه إلى حيث شقة الدكتور يوسف والي على كورنيش نيل العجوزة، ليستقبلهما الرجل بوقاره المعهود، وليسمع القصة بالكامل.

سأل يوسف والي الموظف الصغير: وأنت ليه ما أخدتش العشرة آلاف جنيه؟

رد الموظف - حسب كلامه: أعمل بيهم أيه يا أفندم.. أنا عارف أن دا ممنوع، وتصدير أي بذرة عليه حظر.

ضحك الدكتور يوسف والي، والعهدة على الراوي أيضا، وقال له إن المرأة صاحبة العرض المغري ستحصل على البذرة و"ببلاش"، وسترسلها للجهة التي طلبتها منها، وأنا عارف كويس أن إسرائيل هي اللي عاوزاها، وعارف كمان هي عاوزاها ليه؟

إلى هنا، تنتهي قصة لقاء الشاب ويوسف عبد الرحمن، ليبدأ تحليلي الشخصي لهذه القضية.

إن القطن المصري، خاصة "الأشموني" شأنه شأن العديد من الأصناف الزراعية التي تمت سرقتها، بهدف تغريبها، ومسح هويتها، ثم إعادتها مرة أخرى كصنف "مستورد" إلى السوق المصرية، والمثال القائم على هذا الأمر، هو قطن "بيما" الأمريكي قصير التيلة، الذي يصلح للجني الآلي، ومصدره "الأشموني" المصري طويل التيلة، الذي لا يتم جنيه إلا بالأيدي العاملة.

ومصيبة القطن المصري حاليا ليست في تغريبته فقط، واستنساخ بذرته وهندستها وتهجينها لإنتاج أصناف قصيرة يتم جنيها آليا، وإنما في تطوير تكنولوجيا الغزل في اليابان وألمانيا وسويسرا وأمريكا، وجميع هذه الدول كانت تستورد القطن المصري طويل التيلة لإنتاج غزول دقيقة تصلح لصناعة أرقى أنواع النسيج.

أصبحت هذه الدول بفعل التكنولوجيا العالية تتعاقد على شراء القطن قصير التيلة قبل زراعته في الهند، والصين، وباكستان، وأيضا من بوركينا فاسو.

ولضيق الفجوة السوقية التي كانت تستوعب القطن المصري، بسبب تعرض أصنافه للخلط، ليس هناك من حل سوى إحكام الحصار على مزارعي القطن بعدم تداول إنتاجه بين المحافظات، لضمان عدم الخلط في التقاوي، وهي الوسيلة الوحيدة حاليا للحفاظ على نقاوة القطن المصري الأصيل، لكي لا تكون هناك حجة أمام هواة "التيلة الأنعم" نوعيا، التي لا تضاهيها "تيلة" في العالم، مهما تعاظمت تكنولوجيا الغزول.

يبقى على التجار المصريين أن يعوا الوطنية المصرية، وبدلا من الإصرار على نسبة أرباح تتجاوز ألف في المائة باستيرادهم القطن قصير التيلة، يقدمون ما يجب تقديمه لمصر حتى لو هبطت نسبة أرباحهم إلى 200 في المائة فقط، بشراء القطن المصري دون ابتزاز الحكومة.
barghoty@yahoo.com
الجريدة الرسمية