رئيس التحرير
عصام كامل

أمريكا.. والانتقام من التاريخ


في كلمات قليلة، لخص مسئول الدعاية والإعلام في العصر النازي 'جوزيف جوبلز' كيفية اختصار المعارك والحروب فيما يشبه 'قذائف الورق'، قائلا: (إذا أردت أن تقضي على شعب فلابد أولا أن تقضي على تاريخه وأساطيره)... لذلك لم يكن غريبًا أن يكون التراث والتاريخ هو أول أهداف أي مستعمر نزل أراضي العرب والإسلام. وأن يكون التاريخ والذاكرة هو أهم الأهداف التي يركز الإسرائيليون والأمريكيون على تدميرها.


فمنذ اللحظة الأولى التي دخلت فيها قوات الاحتلال الأمريكية بلاد الرافدين كان هدفها الأول سرقة التاريخ وتطبيق مقولة 'جوبلز' والقضاء على تراث الشعب العراقي.. وسرقة المتحف الرئيسي بمدينة بغداد. والأهم أن تركيز هذه القوات كان على كل أثر يخص اليهود في فترة السبي البابلي. إذن لم يكن الهدف هو مجرد ثروة العراق المادية من البترول والأرض والزرع ولكن الأهم هو الذاكرة.

وقبل المشهد العراقي وما تم فيه من جرائم وانتقام من تاريخنا كانت العصابات الصهيونية قد اغتصبت تاريخ فلسطين وتراثه قبل أن تحتل الأرض. وكانت أهم مهام عناصر الاستخبارات الإسرائيلية حتى قبل إعلان اغتصاب فلسطين رسميًا هى نهب وطمس هوية وتاريخ وتراث الشعب الفلسطيني ومحاولة إثبات أن اليهود هم أصل شعوب المنطقة لا العرب.. ويكفي الرجوع في هذا المجال لما ذكره الإرهابيون الأوائل للكيان الصهيوني، أمثال: تيودور هرتزل وبن جوريون ومناحم بيجين وموشي ديان، حول ضرورة مسخ وإزالة الهوية الفلسطينية وضرورة الاستيلاء على تراث هذا الشعب وسرقته. وللأسف فقد بادرنا بحلق رءوسنا وتبرأنا من هذا التاريخ والتراث طواعية ودون تفكير بل وسلمنا بأننا نحمل في داخلنا جينات الإرهاب الفكري ومعاداة الحضارة.

والأمر الذي يدعو للدهشة أن العرب والمسلمين استجابوا لذلك وقبلوا أن يستقوا تاريخهم وتراثهم من خلال الرؤية العنصرية الأمريكية الصهيونية ومن خلال بعض المستشرقين الذين وضعوا أنفسهم وتاريخهم الأكاديمي في خدمة اليهود.

وحتى عندما يحاول بعضهم إظهار حياده الأكاديمي أو أنه يراجع أفكاره مثل مقولة 'نهاية التاريخ' التي أطلقها فرانسيس فوكوياما ثم عاد ونقضها بدافع كما يقول البعض من حياده كأكاديمي.. أراه يتنافى مع واقع طاحونة الحرب الفكرية للمحافظين الجدد.
فنهاية التاريخ كنظرية كانت تعني وقوف أمريكا عند حدودها وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي محور الشر وسبب ظلام العالم كما كانت تردد ماكينة الحرب الأمريكية.

إن نهاية التاريخ كانت تعني أيضا خسارة كبيرة لصناعة السلاح ولوبي النفط والشركات متعددة الجنسيات، ولذلك كان يجب إدارة معركة مقابلة من جانب مراكز الأبحاث "ThinkTanks" التابعة لجماعات المصالح التي يمتلكها لوبي النفط والسلاح.. الذي انتصر لنظرية صراع الحضارات، وبذلك تصبح المعركة القادمة ضد العرب والمسلمين خطوة فقط ووسيلة وليست غاية حتى تصل أمريكا إلى حدود الصين مستخدمة نظرية صراع الحضارات، وربما تعود بنا من جديد لمحور الشر الصيني باعتباره يأجوج ومأجوج.. وهي فكرة توظيف التراث لخدمة الآلة العسكرية.

وتعتبر مؤسسة التراث "Heritage" من أهم مؤسسات المحافظين الجدد وأخطرها على الإطلاق ولنلاحظ أنهم استخدموا كلمة 'تراث'.. تراث من؟!.. أمريكا.. فهل لأمريكا تراث؟!.

لقد لعبت هذه المؤسسة دورا خطيرا في توجيه الرأي العام الأمريكي منذ السبعينيات وهي الآن تقوم بإعداد العالم لمعركة "هرمجدون" من خلال نشر أبحاثها وعلمائها ومنظريها لنشر فكر اليمين المحافظ في العالم.. خاصة أوربا وأفريقيا من خلال التعاون مع 200 منظمة ومجموعة أجنبية، ولعلنا هنا نذكر أن مشروع نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط الذي أطلقه وزير الخارجية الأسبق 'كولن بأول' خرج من مؤسسة التراث.. التي تعد إحدى أذرع المخابرات الأمريكية.

أمريكا تمارس الانتقام البشع من تاريخنا والحرب القادمة هي حرب التاريخ والذاكرة.. وتريدنا أن نكون نحن يهود التاريخ.
الجريدة الرسمية