كيف روض بوتين مليارديرات روسيا في زمن الحرب؟ الصمت مقابل الثراء.. الولاء شرط البقاء.. العقوبات الغربية تتحول إلى وقود للاقتصاد.. وأحداث درامية تسطر نهاية من يرفع راية العصيان
في معادلة قاسية لا تحتمل التمرد، نجح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في إخضاع مليارديرات روسيا من أجل الوقوف إلى جواره في الحرب الروسية الأوكرانية، محولا العقوبات الغربية من أداة ضغط إلى وقود لاقتصاد الحرب.
وكشف تقرير نشرته هيئة الإذاعة البريطانية أن الإقرار بالولاء للدب الروسي كان شرطا للبقاء، والصمت كان ثمنا للثراء، وسياسة العصا والجزرة كانت وحدها سيدة المشهد.
منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير 2022، تمكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من إحكام قبضته على المليارديرات الروس، الذين بلغ عددهم رقما قياسيا خلال 25 عاما من حكمه.
وبحسب التقرير، فإن الأثرياء الأقوياء –المعروفين في روسيا بلقب "الأوليجارشية"، فقدوا تقريبا كل نفوذهم السياسي، في ظل معادلة قائمة على الصمت مقابل المال، متبعا سياسة "العصا والجزرة".
يشير مصطلح "الأوليجارشية" إلى ما يعرف بـ"حكم الأقلية"، وهي نظام سياسي تكون فيه السلطة محصورة بيد فئة صغيرة من المجتمع تتسم بالثروة أو النسب أو القوة العسكرية، وتدير الحكم لصالح مصالحها الخاصة بدلا من المصلحة العامة، وغالبا ما تظهر عبر رجال أعمال أثرياء أو عائلات نافذة كما حدث بعد تفكك الاتحاد السوفيتي.
العصا في مواجهة جنوح أوليج تينكوف
تقول هيئة الإذاعة البريطانية: فشلت العقوبات الغربية في تحويل أثرياء روسيا إلى معارضين للرئيس الروسي؛ ومنهم الملياردير المصرفي السابق أوليج تينكوف الذي يعرف تماما معنى العصا؛ فبعد يوم واحد من انتقاده الحرب واصفا إياها بـ"الجنون"، في منشور على "إنستجرام"، اتصل الكرملين بالمقربين منه، ليبلغوه أن بنك "تيك أوف"، ثاني أكبر بنك في روسيا آنذاك، سيصبح مملوكا للدولة ما لم يقطع هذا البنك كل صلاته بمؤسسه.

وقال تينكوف لجريدة "نيويورك تايمز": "لم أتمكن من مناقشة الثمن، وكانت الرسالة واضحة: خذ ما يعرض عليك. ولم أستطع التفاوض".
وخلال أسبوع، أعلنت شركة مرتبطة بالملياردير الروسي فلاديمير بوتانين -خامس أغنى رجل أعمال في روسيا، والذي يزود محركات الطائرات المقاتلة بالنيكل- أنها ستشتري البنك، بسعر لا يمثل سوى 3% من قيمته الحقيقية، بحسب تينكوف، والذي خسر في النهاية نحو 9 مليارات دولار من ثروته السابقة، واضطر إلى مغادرة روسيا.
تحولات درامية في مسيرة المليارديرات الروس
في السنوات التي أعقبت تفكك الاتحاد السوفيتي، استطاع بعض الأغنياء الروس الاستحواذ على شركات ضخمة كانت مملوكة للدولة سابقا واستغلال فرص الرأسمالية الناشئة في بلدهم.
ومنحتهم ثرواتهم الجديدة نفوذا وسلطة خلال فترة الاضطرابات السياسية، وأصبحوا يعرفون باسم "الأوليجارشية"؛ وكان أكثرهم قوة الملياردير بوريس بيريزوفسكي، الذي زعم أنه ساهم في صعود بوتين إلى الرئاسة عام 2000.
وبحسب هيئة الإذاعة البريطانية، يقول بيريزوفسكي: طلبت المغفرة بعد ذلك بسنوات؛ لكنني لم أر فيه وقت دعمي له ذلك الطاغية الجشع في المستقبل، الرجل الذي سيدوس على الحرية ويوقف تطور روسيا.
بعد أكثر من عام بقليل من اعتذاره، عثر على جثة بيريزوفسكي في ظروف غامضة أثناء نفيه في المملكة المتحدة، وبحلول ذلك الوقت، كانت الأوليجارشية الروسية قد انتهت فعليا أيضا، وفق التقرير.
كيف روض بوتين مليارديرات روسيا؟
بعد ساعات من بدء الحرب الروسية الأوكرانية، جمع بوتين أغنى رجال روسيا في الكرملين؛ ولم يكن لديهم الكثير ليعترضوا عليه، رغم علمهم بأن ثرواتهم على وشك أن تتعرض لضربة هائلة؛ حيث بدت شفاههم شاحبة وضربهم الإرهاق.

وبحسب هيئة الإذاعة البريطانية، فقد قال الرئيس الروسي لهم: في هذه الظروف الجديدة، آمل أن نتعاون معا بنفس الكفاءة، وليس أقل.
كان للحرب عواقب مباشرة على المليارديرات الروس؛ ففي أبريل 2022، انخفض عددهم من 117 إلى 83 بسبب الحرب والعقوبات وضعف الروبل، وخسروا مجتمعين 263 مليار دولار؛ أي نحو 27% من ثروتهم لكل فرد في المتوسط.
اقتصاد الحرب أدى إلى فوائد روسية هائلة
لكن السنوات التالية أظهرت أن الانضمام إلى اقتصاد الحرب الخاص ببوتين يحمل فوائد هائلة؛ حيث دفع الإنفاق الباذخ على الحرب النمو الاقتصادي في روسيا إلى أكثر من 4% سنويا في عامي 2023 و2024، وكان ذلك جيدا حتى للأثرياء الذين لم يحققوا مليارات مباشرة من عقود الدفاع.
ففي 2024، شارك أكثر من نصف مليارديرات روسيا في تزويد الجيش باحتياجاته، وفق مجلة "فوربس".
وقال الخبير في شؤون الثروات في "فوربس" جيامكو توجنيني لهيئة الإذاعة البريطانية: أعتقد أنه من العدل القول إن أي شخص يدير أعمالا في روسيا يحتاج لعلاقة مع الحكومة.
وشهد هذا العام أعلى عدد على الإطلاق من المليارديرات في روسيا؛ حيث بلغ عددهم 140 مليارديرا وفق قائمة فوربس، وبلغت ثروتهم المشتركة 580 مليار دولار، أي أقل بـ3 مليارات دولار فقط من الرقم القياسي المسجل قبل الحرب مباشرة.
معاقبة من يرفضون الانصياع
يسمح بوتين للموالين بالربح، بينما يعاقب باستمرار من يرفضون الانصياع؛ ويتذكر الروس جيدا ما حدث مع ميخائيل خودوركوفسكي، أغنى رجل في روسيا سابقا، الذي قضى 10 سنوات في السجن بعد تأسيس منظمة مؤيدة للديمقراطية في 2001.
ومنذ الحرب، ظل معظم الأثرياء الروس صامتين، والقليلون الذين عارضوا علنا اضطروا إلى مغادرة بلادهم، وفقدوا جزءا كبيرا من ثروتهم.
مساوئ الغرب دعمت موقف بوتين
يقول الخبير في مركز التحليل السياسي الأوروبي ألكسندر كولياندر: لقد فعل الغرب كل ما يمكن لضمان التفاف المليارديرات الروس حول العلم الروسي؛ فلم تكن هناك أي خطة غربية لاستقطابهم، ولم يكن هناك مسار واضح يساعد المعارضين منهم على الهرب بثرواتهم؛ بل على العكس، فقد فرض الغرب عقوبات على الأصول الروسية، وصودرت ممتلكاتهم وجمدت حساباتهم في الدول الغربية، وكل ذلك ساعد بوتين فعليا على تعبئة المليارديرات وأصولهم وأموالهم لدعم اقتصاد الحرب الروسي.
كما أدى خروج الشركات الأجنبية بعد غزو أوكرانيا إلى خلق فراغ سرعان ما ملأه رجال أعمال موالون للكرملين، سُمح لهم بشراء أصول مربحة بأسعار منخفضة.
وفي عام 2024 وحده، ظهر 11 مليارديرا روسيا جديدا بفضل هذه الآلية، مما يؤكد أن الزعيم الروسي حافظ على قبضة حديدية على مراكز القوى المالية في البلاد، ليس فقط رغم الحرب والعقوبات الغربية، بل في كثير من الأحيان بفضلهما؛ حيث أصبح الانشقاق عن النظام مستحيلا ماديا وسياسيا، وباتت الثروة في روسيا رهينةً بالولاء المطلق للكرملين.