تسلم إيدك.. نقوش على كفِّ الذاكرة
يقدِّم فيلم “تسلم إيدك” للمخرجة جومانا بعلبكي تجربة سينمائية تنتمي إلى سينما التفاصيل، الفيلم قصيدة بصرية متشابكة مع مشاهد يومية لحياة سبعة شخصيات تعيش بلندن، تحمل هويات وذكريات مختلفة، حيث تحوّلت الأفعال اليومية البسيطة إلى لغة بصرية مشحونة بالدلالة. لا يروي الفيلم حكاية تقليدية، بل يرسم عالمه من خلال الطقوس والتكرار والحركة الدائرية، ليضع المتلقي في موضع المشارك في تحليل الأحداث ودلالاتها.
يبدأ الفيلم برسم دائرة على ورقة بيضاء، وبطاطس تُقشَّر في حركة دائرية، لتتأسس منذ اللحظة الأولى دلالة بصرية هي الدوران والرغبة للعودة للوطن الأم. استُخدمت هذه الدوائر كمدخل رمزي لفكرة الحنين العالق بالذاكرة، والذي يتحرك دون أن يصل.
وتتأكد الفكرة بظهور نقوش الحنّة الدائرية والحلزونية على اليد، حين تتلامس اليدان فتطبع إحداهما النقش ذاته على اليد الأخرى، في تكرار لمحاولة استنساخ الذاكرة والهوية. ثم يُقشَّر النقش ويُرسم نقش جديد فوقه دون أن يُمحى الآخر؛ طبقات فوق طبقات، هكذا تُصنع هويتنا.
اللافت في الفيلم هو غياب وجوه الشخصيات بالكامل، وحضور الأيدي فقط؛ أيدٍ ترسم، تقشِّر البطاطس، تغسل الأرز، تقطّع الباذنجان، تعجن، وتعزف العود والبيانو، وتتبل الطعام بالتوابل وكأنها تضيف للحياة نكهتها. هذا الاختيار الإخراجي يُلغي فكرة الفردية ويحوّلها إلى ذاكرة إنسانية جماعية؛ فاليد ليست مجرد أداة، بل حاملًا للهوية والذاكرة.
التناوب بين الطبخ والرسم والموسيقى في بناء بصري متوازٍ، من خلال مشاهد العجن والعزف على العود والبيانو، والرسم الذي يُلوَّن بمزيج من صفار البيض والفلفل المطحون، يحوّل المطبخ من مجرد مكان للطبخ إلى مساحة لطهو الذكريات بتفاصيلها.
ويتجلى الحفاظ على الهوية في مشهد اختيار أسطوانة لسماعها أثناء طهو المقلوبة، الأكلة اللبنانية الشهيرة، حيث تختار أحد الشخصيات سماع أسطوانة لفيروز بدلًا من أغنية لأم كلثوم، التي تخالف هوية طبختها.
يتوازى الحوار مع الصورة محمّلًا بإشارات الحنين إلى الوطن والحياة القديمة، من خلال مشاهد لأشجار الزيتون كدلالة بصرية على الجذور والانتماء. ثم تتداخل أصوات العود والبيانو في مزيج حيّ يعكس انقسام الذات بين زمنين وطابعين ومكانين.
ومن أكثر المشاهد حملًا للدلالة مشاهد رسم السيدة مريم العذراء وتلوينها على مراحل متعددة، وفي أكثر من مشهد، بمزيج البيض المخلوط بالفلفل الأسود المطحون. ربطت المخرجة بين اسم الراوية في الفيلم «مريم» وشخصية مريم العذراء، في تشابك حوّلت من خلاله الذاكرة الفردية إلى امتداد روحي وثقافي بدلالة أعمق.
تأتي الذروة في نهاية الفيلم مع مشهد قلب قدر المقلوبة في الصحن، حيث تفشل المقلوبة في السقوط؛ نهاية تخالف المثل الشعبي «اقلب القدرة على فمها تطلع البنت لأمها»، لتأتي بدلالة معاكسة تؤكد أن لا وضع يستقر على حاله، ولا ذاكرة قادرة على الاستنساخ.
فاز فيلم “تسلم إيدك” بجائزة أفضل فيلم – جائزة محمد بيومي لأفلام الشباب والطلبة في الدورة السابعة من المهرجان الدولي للفيلم القصير، تأكيدًا على قيمة التجربة وقدرتها على المزج بين الدلالات النفسية والفلسفية، وبين التراث والبحث عن هوية جديدة والحنين للوطن، برؤية فنية واعية.