الحرب على مفتشي الأغذية.. مخاوف من فشل منظومة الرقابة على سلامة الغذاء بسبب تجاهل خبرة المراقبين الصحيين.. قوانين عمرها 80 عامًا لا تتناسب عقوبتها مع كوارث الغش الغذائي
منذ تأسيس الهيئة القومية لسلامة الغذاء منذ سبعة أعوام، ظل ملف نقل مفتشي ومراقبي الأغذية من وزارة الصحة إلى الهيئة الجديدة معلقًا ولم ينفذ فعليًا بحسب القانون، الأمر الذي تحول تدريجيًا إلى أزمة حقيقية.
فعلى الرغم من أن مفتشي وزارة الصحة يمثلون تاريخيًا خط الدفاع الأول عن سلامة الغذاء، فإن تجميد أدوارهم في المصانع وتجاهل نقلهم للهيئة وفق القانون خلق فراغًا رقابيًا أصبح يسبب القلق داخل القطاع الوقائي، خاصة مع اقتراب الهيئة من استلام كامل اختصاصات السوق المحلي بداية عام 2026.
وحذر العاملون بمنظومة التفتيش الغذائي ونقابة العلوم الصحية، التي ينتمي إليها مفتشو الأغذية في مصر، من ضياع خبرات تمتد لعقود، ومن تأثير مباشر على جودة الرقابة الغذائية في مصر.
فيتو تحدثت مع المسئولين بالنقابة العامة للعلوم الصحية للكشف عن تفاصيل الأزمة وتأثيرها على سوق الغذاء ومنظومة الرقابة الغذائية في مصر.
مسؤولية الرقابة على الأغذية
بدوره أكد هيثم السبع، عضو مجلس النقابة العامة للعلوم الصحية، وعضو لجنة المراقبين الصحيين ومسؤول ملف سلامة الغذاء بالنقابة، أن المراقب الصحي أحد أعمدة القطاع الوقائي في وزارة الصحة، موضحًا أن مهام المراقب الصحي تمتد إلى مجالات متعددة تشمل مراقبة الأغذية، وصحة البيئة، والصحة المهنية، والترصد الوبائي، ومكافحة الأوبئة، والحجر الصحي، ووحدات النفايات، بالإضافة إلى مكافحة التدخين.
وأشار السبع في تصريحات لـ"فيتو" إلى أن منظومة الرقابة على الأغذية بوزارة الصحة قائمة منذ سنوات طويلة، موضحًا أن مفتشي الأغذية يعملون وفق قوانين وقرارات واضحة، وأن نظام العمل موحد في جميع المحافظات من حيث إجراءات التفتيش، وآليات سحب العينات، والمتابعة خلال مراحل الإنتاج من المواد الخام وحتى المنتج النهائي المتداول في الأسواق.
وأوضح أنه في عام 2017 صدر القانون رقم 1 بشأن إنشاء الهيئة القومية لسلامة الغذاء، ونصت مادته الرابعة بشكل صريح على نقل جميع العاملين في مجال الرقابة على الأغذية بالجهات المختلفة إلى الهيئة، بكامل امتيازاتهم الوظيفية، بعد التنسيق بين رئيس الهيئة والوزراء المعنيين، مضيفًا: «حتى عام 2025 لم تنفذ الهيئة هذه المادة».
وأوضح هيثم السبع أن الرقابة على الأغذية في مصر موزعة بين ثلاث جهات: وزارة الصحة عبر الإدارة العامة لمراقبة الأغذية، والهيئة العامة للخدمات البيطرية التابعة لوزارة الزراعة، ومفتشو التموين بوزارة التموين.
وأشار إلى أن القانون الجديد كان يفترض نقل كل العاملين بالرقابة على الأغذية من هذه الجهات إلى هيئة سلامة الغذاء، وهو ما لم يحدث حتى الآن، إذ لا يزال كل مفتش يعمل في جهته الأصلية.
وأوضح أن وزارة الصناعة أصدرت في نوفمبر 2024 قرارًا يقضي بأن يقتصر تفتيش المصانع الغذائية على هيئة التنمية الصناعية وهيئة سلامة الغذاء فقط، ما يعني أن مفتشي الأغذية بوزارة الصحة توقفوا عن مراقبة المصانع منذ ذلك التاريخ، وأصبح دورهم قاصرًا على التفتيش على المحلات والمطاعم والمنشآت الصغيرة، وليس المصانع.
وكشف أن هيئة سلامة الغذاء تطبق نظامًا يعرف بـ«القائمة البيضاء»، حيث يجري تقييم المصانع عبر فرق تفتيش تتبع الهيئة، وحال حصول المصنع على تقييم مرتفع، يصبح ضمن تلك القائمة.
ورغم ذلك، يرى أن الهيئة لا تمتلك قاعدة بيانات شاملة للمصانع الصغيرة أو غير المرخصة المعروفة باسم “مصانع تحت بير السلم”، مؤكدًا أن اكتشاف هذه المصانع يتم غالبًا عبر حملات مشتركة تقودها المحافظات بالتعاون مع مباحث التموين ووحدات الصحة في المديريات، وليس من خلال الهيئة.
وأضاف أن رئيس هيئة سلامة الغذاء ليس منتشرًا على مستوى الجمهورية، ولا يستطيع تغطية القرى والنجوع والمناطق العشوائية، مقارنة بانتشار مكاتب مراقبة الأغذية التابعة لوزارة الصحة.
وأشار السبع إلى أن مفتشي الأغذية بوزارة الصحة يمتلكون خبرات عملية ومؤهلات علمية لا تتوافر في معظم العاملين حديثًا بالهيئة، موضحًا أن مفتشي الصحة يدرسون مواد متخصصة مثل مراقبة الأغذية والتشريعات الغذائية، فضلًا عن خبرة ميدانية لا تقل عن عشر سنوات لدى أصغر المفتشين سنًا.
نظام التعيين بالهيئة
وأكد أن نظم التعيين داخل هيئة سلامة الغذاء تعتمد في أغلبها على التعاقدات، وأن هناك -بحسب وصفه- غيابًا واضحًا للخبرة الفنية مقارنة بالعاملين في وزارة الصحة.
وذكر السبع أن الهيئة أعلنت من قبل أنها ستتسلم كامل اختصاصات السوق المحلي بدءًا من 1 يناير 2026، بعد أن سبق وتسلمت اختصاصات تتعلق بالأغذية المستوردة في يناير 2025.
واعتبر أن هذا الانتقال يعرض مفتشي الصحة لخطر فقدان الدور الوظيفي، إذ ستتوقف صلاحياتهم في الرقابة على الأغذية، وبالتالي سيجري توزيعهم على إدارات أخرى لا يمتلكون الخبرة للعمل بها.
وأوضح: «أنا أتولى عملي منذ عام 1999، ولا أعرف سوى هذا العمل، كيف يمكن نقلي إلى قطاع آخر لا أملك الخبرة فيه؟» مضيفًا أن الوزارة استثمرت بالفعل في تدريب هؤلاء المفتشين عبر برامج متخصصة ودورات في الجودة وسلامة الغذاء.
وأشار السبع إلى أن النقابة والعاملين بالرقابة الصحية يدعمون إنشاء هيئة قومية لسلامة الغذاء، ولكنهم كانوا يتمنون أن تكون تابعة لوزارة الصحة.
وأضاف أن تجارب مؤسسات أخرى في مصر مثل هيئة الدواء المصرية وهيئة الرعاية الصحية نجحت لأنها استوعبت العاملين من القطاعات التابعة للوزارة ونقلت خبراتهم معها عند إعادة الهيكلة.
وأكد: لو كانت هيئة سلامة الغذاء قد اتبعت النهج ذاته، لنقلت الخبرات كاملة، ولأصبحت المنظومة أقوى وأكثر فاعلية.
وأوضح أنه سيتم إعادة توزيع العاملين داخل وزارة الصحة بعد سحب اختصاصات الرقابة منهم، لافتًا إلى أن نقل المفتشين إلى أقسام كالصحة المهنية أو مكافحة الأوبئة دون تدريب مسبق يمثل إهدارًا للخبرة والمال العام، لأنهم لن يتمكنوا من أداء مهام جديدة لم يدربوا عليها.
وأكد استعداد مفتشي الأغذية للانتقال إلى هيئة سلامة الغذاء وفق ضوابط واضحة، شرط تنفيذ القانون ونقل العاملين بكامل خبراتهم، قائلًا: «ما ندرسه ونمارسه يتطابق مع نظم عمل الهيئة، والانتقال سهل إذا التزمت الهيئة بالقانون».
وأكد أن جميع مفتشي الأغذية التابعين لوزارة الصحة لديهم الضبطية القضائية بموجب القانون، وهي أداة أساسية للعمل الرقابي والتحفظ على الأغذية الفاسدة.
وأوضح السبع أن الهيئة تعتمد نظام التعاقد، وأن المتعاقد لا يحق له قانونًا الحصول على الضبطية القضائية، مشيرًا إلى أن هناك مفتشين بالهيئة "حديثو تخرج" أو مؤهلاتهم غير متخصصة.
وضع معلق للمفتش الصحيين
من جانبه أوضح مصطفى خليل، نقيب العلوم الصحية في جنوب سيناء، جذور الأزمة وتأثيرها على المنظومة الغذائية.
وأشار لـ"فيتو" إلى أن المادة الرابعة من قانون إنشاء الهيئة تنص بوضوح على نقل جميع العاملين في مجال الأغذية والمشروبات إلى الهيئة القومية لسلامة الغذاء، ورغم النص القانوني الحاسم، لم يتم النقل فعليًا حتى اليوم، فقد اكتفت الهيئة بإصدار خطاب لوزارة الصحة عام 2019 تطلب فيه استمرار مفتشي الأغذية في أداء أعمالهم لحين نقل الاختصاص، ولم يتحقق ذلك حتى الآن.
ورغم بقاء الوضع معلقًا، استمر المفتشون في أداء دورهم، بل ورفعوا من مستوى تأهيلهم عبر الدورات والدبلومات والدراسات العليا، استعدادًا للانتقال الطبيعي إلى الهيئة الجديدة.
وأوضح أن الدكتور حسين منصور، الرئيس السابق للهيئة، رفض دون إعلان أسباب واضحة ضم مفتشي وزارة الصحة. ورغم محاولات النقابة عبر اجتماعات متكررة، لم يتغير الموقف.
وأضاف: حتى عندما كان يقال إن المشكلة في المؤهلات، كنا نوضح أن بيننا من يحمل ماجستير ودكتوراه ودبلومات متخصصة، بل وإن خبراتنا العملية على الأرض تفوق بكثير خبرات تخصصات لا تمت للغذاء بصلة.
وأكد أن هيئة سلامة الغذاء تضم حاليًا كوادر من تخصصات مثل الحقوق أو مجالات بعيدة عن علوم الغذاء والرقابة، بينما يتم تجاهل خبرة ممتدة لمفتشي الصحة على مدى عقود.
ومع تولي الدكتور طارق الهوبي رئاسة الهيئة، بدأت النقابة مرحلة جديدة من الحوار.
صورة مغلوطة عن المفتشين
وأوضح مصطفى خليل أن رئيس الهيئة الحالي بدوره كان يحمل صورة مغلوطة عن المفتشين، قبل أن تنعقد اجتماعات أوحت بوجود انفراجة، ولكن تلك الوعود لم تستكمل، والاجتماعات توقفت منذ ما يزيد على شهر ونصف، ولم يتم تحديد أي آلية فعلية لنقل المفتشين وفق القانون، خاصة في ظل إصرار الهيئة على الاكتفاء بنظام الانتداب المشروط عبر إعلانات حديثة.
وأكد أن التوجه الحالي داخل الهيئة يميل إلى الاعتماد على تخصصات الزراعة تحديدًا، وهو تخصص رؤساء الهيئة المتعاقبين.
ويصف ذلك بأنه تحيز غير مبرر طال خريجي المعاهد الفنية الصحية، رغم أنهم العمود الفقري للرقابة منذ أكثر من 120 عامًا.
ويقدر مصطفى خليل عدد مفتشي الأغذية المتضررين بحوالي 1400 مفتش ومراقب على مستوى الجمهورية، ورغم هذا العدد، فإن القطاع يعاني أصلًا من عجز في القوة البشرية. لكن بدلًا من سد العجز عبر نقل المفتشين كما ينص القانون، تدار المنظومة بنصف قوتها أو أقل.
ويضيف أن الهيئة ترفض حتى تعيين المكلفين الجدد من خريجي المعهد الفني الصحي، وترفض النقل، وترفض الانتداب البنّاء.
وعن سبب تمسك المفتشين بالنقل، أكد أن انتقالهم هو حق قانوني واضح، ولأن تخصصهم وخبراتهم تنتمي إلى مجال رقابي محدد لا يمكنهم ممارسته داخل وزارة الصحة إذا تم فصل الاختصاص عنها، ولأن استمرارهم في وظائف عامة غير متصلة بتخصصهم، مثل التطعيمات وغيرها، يمثل إهدارًا لمهنة كاملة وتضييعًا لخبرات امتدت لعقود.
أخطر ما كشفه نقيب العلوم الصحية بجنوب سيناء هو تأثير وقف تفتيش مفتشي وزارة الصحة على المصانع منذ عامين، فالمصانع أصبحت خاضعة فقط لهيئة سلامة الغذاء، دون زيارات دورية أو سحب عينات منتظمة، وهو ما خلق -بحسب تعبيره- فراغًا رقابيًا واضحًا.
وأضاف أن المصانع باتت تنتج دون متابعة، بينما يتحمل المحل الذي تسحب منه العينة المسؤولية، رغم أن المشكلة في المصنع وليس في البائع.
سحب الرقابة على المصانع
وأشار إلى أنه بعد سحب الرقابة على المصانع، أصبح دورهم مقتصرًا على المطاعم والمنشآت السياحية ومحال الأغذية والسوبر ماركت والباعة في الأسواق المحلية والمنشآت الشعبية، أما الاستيراد والتصدير فليسوا طرفًا فيه، بعدما أصبح تحت سيطرة الهيئة وحدها.
وتابع حديثه: "قبل نقل اختصاص المصانع، كان المفتش يرى المادة الخام وظروف التصنيع وطرق التخزين وإجراءات النظافة، وآخر مراحل الإنتاج وجودة المنتج بعد خروجه للأسواق، والآن أصبح يرى المنتج في آخر مرحلة فقط، بعد أن يصبح معروضًا للمستهلك، مما يحد من قدرة الرقابة بشكل كبير".
وحذر مصطفى خليل من مسارين، وهما ضياع تخصص مهني كامل عبر توزيع المفتشين على أعمال لا علاقة لها بالغذاء، وتفاقم الفراغ الرقابي على قطاع بالغ الحساسية.
وروى جانبًا آخر من الأزمة يتعلق بالتشريعات التي يعمل بها المفتشون حتى اليوم، فالقوانين الحاكمة لرقابة الغذاء هي قانون 48 لسنة 1941 وقانون 10 لسنة 1966، وأحدثهم قانون صدر في 1994.
ويصف العقوبات بأنها غير منطقية إطلاقًا، إذ تكتفي بغرامات 50 جنيهًا أو 5000 ـ 10 آلاف جنيه كحد أقصى، مع إمكانية خفضها في الطعن لتصبح «2000 أو 3000 جنيه فقط» حتى في حالات الغش الكبرى.
ويؤكد: نحن نعمل بقوانين عمرها أكثر من 80 عامًا، بينما السوق تطور مئات المرات.