إجرام بالقانون.. إيصالات أمانة من العدم وكوابيس لا تنتهي.. "فيتو" تكشف عن أكبر شبكة لتلفيق القضايا ضد الأبرياء
في قلب ريف الدقهلية، وتحديدًا بين قريتي شبرا هور ونوب طريف التابعتين لمركز السنبلاوين، لم يعد الهدوء عنوان الحياة الريفية كما كان، خلف جدران البيوت البسيطة يعيش عشرات الأسر حالة من الرعب، بعد أن تحوّل القانون، الذي يُفترض أن يحميهم، إلى أداة تُستخدم ضدهم، ليجدوا أنفسهم فجأة محاصرين بآلاف الأحكام القضائية، دون أن يرتكبوا ذنبًا، أو يوقعوا ورقة، أو يقترضوا جنيهًا واحدًا.
القصة تبدأ عندما فوجئ عدد من الأهالي بـاستدعاءات قضائية وأحكام غيابية بتهم تبديد إيصالات أمانة موقعة بأسمائهم، الصدمة الكبرى أن معظم القضايا مرفوعة من أشخاص غرباء عنهم تمامًا، من محافظات أخرى لم يروهم في حياتهم، ولم يعرفوا حتى أسماءهم من قبل، لم يصدقوا ما جرى؛ فكيف يُدان إنسان في قضايا نصب وديون لم يسمع عنها من قبل، ولم يلتق أصحابها، أو يوقع ورقة يمكن أن تدينه؟
لكن الصدمة لم تتوقف عند هذا الحد؛ إذ بدأت مكالمات ورسائل غامضة تصل إلى بعضهم من أشخاص يدّعون الوساطة مع أصحاب القضايا، عارضين حلولًا سريعة مقابل مبالغ مالية ضخمة، ومع الخوف والارتباك، اضطر بعض الضحايا إلى الدفع، فقط لإنقاذ أنفسهم من السجن وحماية أسرهم من العار والضياع.
تحولت “الوساطة” إلى ابتزاز صريح، فبدلًا من إنهاء الأزمة، بدأ هؤلاء الوسطاء يهددون الأهالي بزيادة عدد القضايا، بل وبخطف أبنائهم أو تلفيق اتهامات جديدة إذا لم يستجيبوا لمطالبهم المالية، هكذا انكشفت الحقيقة المروعة: الوسطاء هم أنفسهم صناع الكارثة، يقودون شبكة محكمة تستغل ثغرات القانون، وتستخدم إيصالات أمانة مزورة لتلفيق قضايا وهمية، ثم تساوم الضحايا تحت مظلة قانونية تبدو في ظاهرها صحيحة!
هذه الواقعة ليست مجرد قضية جنائية عابرة، بل ناقوس خطر يدق أبواب العدالة، إنها تكشف كيف يمكن للقانون، إذا تُرك بلا رقابة وبلا علاج لثغراته، أن يتحول من مظلة حماية إلى سلاح في يد المجرمين، يهدد حياة الأبرياء، ويقوض الثقة في منظومة العدالة برمتها.
"فيتو" تكشف خلال هذه الحملة وقائع وتفاصيل عن أكبر شبكة ابتزاز وتهديد، تتجاوز حدود قرية صغيرة إلى قرى عدة، وكيف تلاعبت بالقانون وثغراته، والكثير من الضحايا والأبرياء.
==========================================================================
عشرات الأحكام الغيابية تهدد مستقبل ابنته طالبة الطب
الحاج سامح عقل.. "كعب داير" في محاكم مصر
بكلمات تقطر حسرة وألمًا، روى الحاج سامح عقل تفاصيل مأساته قائلًا: لي ابنة تدرس الطب في إحدى جامعات الأردن، اعتادت السفر للدراسة والعودة في الإجازات.. كانت الأمور تسير بشكل طبيعي، إلى أن فوجئت باتصال هاتفي من ابنتي، وكانت منهارة وتبكي بكاءً حارًا، وقالت وهي تغالب دموعها إن رجال الأمن في ميناء نويبع احتجزوها أثناء إنهاء إجراءات دخولها مصر، بعد أن تبين لهم وجود أحكام قضائية عديدة مسجلة باسمها على أجهزة الحاسب الآلي الخاصة بالأمن العام.. وقعت الكلمات عليّ كالصاعقة، واعتقدت أن هناك خطأ ما أو تشابه أسماء، خصوصًا أن ابنتي تقضي معظم الوقت في الأردن للدراسة، ولا تربطها أية معاملات قانونية مع أي شخص.. تحدثت مع المسؤولين في الميناء وبعد مفاوضات سمحوا لها بالدخول من الميناء حتى نتمكن من استجلاء الأمور واتخاذ إجراءات المعارضة في تلك الأحكام التي لا نعلم عنها شيئًا.
بدت الجدية الممزوجة بالغضب على وجه الرجل قبل أن يضيف: استعنت بمحامٍ لمعرفة تفاصيل تلك الأحكام، ليكتشف أنها صادرة في قضايا تبديد إيصالات أمانة تتراوح قيمتها ما بين 10 و70 ألف جنيه، مقامة من أشخاص مختلفين لا يعرف عنهم شيئًا، وفي محافظات متعددة مثل القليوبية والشرقية وأسوان، ما يدل بوضوح على أنها جميعًا ملفقة ولغرض لا نعلمه.. بدأت مضطرًا في اتخاذ إجراءات المعارضة على تلك الأحكام الغيابية، الأمر الذي كلفني مبالغ كبيرة كمصروفات وانتقالات وأتعاب محاماة، فضلًا عن الإرهاق البدني الناتج عن السفر إلى عدة محافظات.. ظننت أن الأمر مقتصر على ابنتي، ولكن الطامة الكبرى عندما اكتشفت وجود مئات الأحكام القضائية المماثلة مسجلة باسمي أنا وزوجتي ووالدتي وعدد من أقاربي، وجميعها قضايا وهمية ومقامة أيضًا في محافظات متفرقة.
تنهد الحاج عقل في ضيق واضح وقال: بينما أنا غارق في دوامة الإجراءات القانونية، وتائه في أروقة المحاكم والنيابات سعيًا وراء المعارضات وبحثًا عن البراءة من اتهامات وقضايا لا أعرف عنها شيئًا، فوجئت ببعض الأشخاص من بلدتي بالدقهلية يتواصلون معي ويخبرونني بوجود شخص يمكنه أن ينهي تلك المأساة بسهولة، من خلال التوسط بينه وبين مقيمي تلك الدعاوى الوهمية، لم أضيع وقتًا وتواصلت مع الشخص المشار إليه، فطلب 200 ألف جنيه مقابل خدماته، وبعد مفاوضات خفض المبلغ إلى 100 ألف، دفعته كاملًا على أمل الخلاص من ذلك الكابوس، غير أن ما حدث بعد ذلك كان صدمة مدوية.
وفقًا لما جاء على لسان الحاج عقل، فإنه بعد أن دفع المبلغ المطلوب، فوجئ بأحكام جديدة ضده وجميع أفراد أسرته، وعندما تواصل مع الوسيط طلب منه 150 ألف جنيه، بزعم أن أصحاب القضايا هم من طلبوا الأموال، ليكتشف بعد ذلك أن الوسيط هو المحرك الأساسي لكل تلك القضايا، مستعينًا بمجموعة من الأشخاص بينهم محامون، لذلك امتنع عن دفع أي مبالغ أخرى، غير أنه مازال يعيش وأسرته في كابوس مزعج، بسبب تلك الأحكام التي صدرت بناءً على أوراق مزورة.

أكثر من 520 قضية تحاصره هو وعائلته
الحاج درويش.. فقد شاليه ودفع 600 ألف جنيه
الحاج محمد درويش، رجل في العقد السادس من عمره، كانت حياته طبيعية وأموره مستقرة، وفجأة انقلب كل شيء رأسًا على عقب، وتحول هو وأفراد أسرته إلى مطاردين من العدالة مهددين بالسجن لسنوات طويلة، بسبب مئات الأحكام الغيابية الصادرة ضدهم في قضايا تبديد إيصالات أمانة أقامها أشخاص لا يعرفون شيئًا عنهم وفي مختلف المحافظات.. الحاج درويش روى تفاصيل مأساته لـ "فيتو" قائلًا: "أنا شخص مسالم وأحترم القانون ولم أدخل مركز شرطة في حياتي متهمًا، بالصدفة اكتشفت أنني مطلوب للعدالة لتنفيذ مئات الأحكام الغيابية الصادرة ضدي أنا وعدد كبير من أفراد أسرتي، بينهم والدتي المسنة التي تعاني من مرض الألزهايمر، وابنتي التي تدرس في كلية الطب، وابني القاصر.. لم نعرف السر وراء تلك الأحكام في البداية، ولكني شرعت في اتخاذ الإجراءات القانونية وإقامة المعارضات عليها في النيابات المختصة، بل وسرت في إجراءات التقاضي وحصلت على أحكام بالبراءة بعد ثبوت تزوير إيصالات الأمانة المزعومة، التي تبين أن أصحابها لا يمتّون لنا بأية صلة ولا نعرفهم نهائيًا".
درويش أضاف: "تكبدت مصاريف طائلة جراء التنقلات بين محافظات الدقهلية والقليوبية والشرقية وغيرها، بالإضافة إلى أتعاب المحاماة، وكلما انتهيت من قضية أو مجموعة قضايا ظهرت قضايا أخرى في محافظات أبعد، إلى أن تجاوز عدد القضايا المقامة ضدي أنا وأفراد أسرتي 520 قضية.. وعندما ضاقت الدنيا في وجهي وأحسست بالضياع، فوجئت بمن يدلني على شخص يمكنه أن ينهي كل تلك القضايا بسهولة ويسر، لم أتردد في التواصل مع ذلك الشخص، وطلب مني 500 ألف جنيه مقابل إنهاء كافة القضايا في جميع المحافظات، دفعت له كامل المبلغ حرصًا على سمعتي ومصالحي، وعلى مستقبل الأبناء الذي بات مهددًا، بعد فترة تواصل معي الوسيط مرة أخرى وطلب مبلغ 100 ألف جنيه إضافي دفعته أيضًا، ثم توالت عمليات الابتزاز والتهديد باستهداف الأبناء وإيذائهم، حتى اضطررت للتنازل عن شاليه كنت أمتلكه في الساحل الشمالي لصالح الوسيط".
الحاج محمد درويش اختتم حديثه بالتأكيد على أن الوسيط المزعوم هو الذي يقف وراء كل تلك القضايا، ودلّل على ذلك بأنه تواصل معه عبر وسطاء وطلب منه التنازل عن شقة يمتلكها في مدينة 6 أكتوبر، وعندما رفض بدأ يتلقى تهديدات بإقامة المزيد من القضايا الوهمية، ليس إيصالات أمانة فقط، بل باتهامات جنائية أخرى مثل الاعتداء على أنثى قاصر وغيرها، ثم جاءت التهديدات صريحة بأنه لن ينعم بالراحة أبدًا ما لم ينفذ ما يؤمر به.
الدفع أو خطف الأبناء
أحمد المطحنة.. قصة ابتزاز بـ 3 ملايين جنيه

بدت علامات القلق والاضطراب على ملامح رجل الأعمال أحمد المطحنة وهو يتحدث عن مأساته هو وأفراد عائلته مع الأحكام الغيابية الصادرة في قضايا تبديد إيصالات أمانة وهمية.. وعندما سألناه عن سبب اضطرابه الزائد، أجاب: "ما حدث معي أمر يفوق الخيال.. في البداية فوجئت بعشرات الأحكام الغيابية الصادرة ضدي بالحبس والغرامة، ثم اكتشفت أن أبنائي وزوجتي وأشقائي وأزواجهم وآخرين من معارفي وأقاربي، مطلوبون للعدالة لتنفيذ المئات من الأحكام الصادرة ضدهم أو اتخاذ إجراءات قانونية فيها مثل الطعن والمعارضة، وهي إجراءات معقدة ومكلفة ومجهدة، خصوصًا أن تلك الأحكام صادرة من محاكم مختلفة في محافظات بعيدة".
المطحنة أضاف لـ "فيتو": "بينما أنا غارق في دوامة المحاكم والنيابات، تلقيت اتصالات من بعض الأشخاص يطلبون فيها مبالغ مالية كبيرة مقابل إنهاء كافة القضايا المقامة ضدي أنا وأفراد أسرتي وأقاربي، وعندما سألت عن المبلغ المطلوب قالوا 3 ملايين جنيه.. بالطبع رفضت الدفع نظرًا لضخامة المبلغ، إلا أنني فوجئت باتصالات أخرى، وهذه المرة تحمل تهديدات صريحة ومباشرة باختطاف أبنائي وإيذائهم، وتلفيق المزيد من القضايا لي ولهم، إذا لم أدفع المبلغ المطلوب".
صمت الرجل قليلًا قبل أن يستطرد: "نفذ المتصلون تهديداتهم وفوجئت بعشرات القضايا والأحكام الجديدة ضدي، كلها خاصة بتبديد إيصالات أمانة مقامة من أشخاص لم أسمع عنهم مطلقًا وفي محافظات مختلفة، من بينهم شخص مقيم في محافظة أسوان أقام عشرات القضايا في يوم واحد خلال شهر يوليو الماضي.. تواصلت مع شخص قيل لي إنه وسيط وسينهي كل تلك المشاكل وعليّ أن أتفاهم معه، لكنه طلب مبالغ كبيرة تقدر بالملايين، وعلمت أن كل ما يحدث لي ولغيري من تدبيره هو ومجموعة شركاء له بينهم محامون، وكان يطلب الأموال بجرأة بالغة وبنبرة تحمل صيغة التهديد لدرجة أنه أقسم قائلًا: "والله ما هترتاح طول ما أنا عايش".
طالبوه بالتنازل عن منزله ودفع 350 ألف جنيه
محمد عراقي.. خلافات الجيرة تحولت لكارثة قانونية
"لم أكن أعلم أن خلافًا بسيطًا مع جاري سيفتح عليّ أبواب جهنم".. بهذه الكلمات بدأ محمد عراقي، أحد ضحايا قضايا إيصالات الأمانة الوهمية في محافظة الدقهلية، وأوضح خلال حديثه لـ "فيتو": "الحكاية بدأت عندما وقعت بعض الخلافات العادية بيني وبين أحد جيراني، وتم استدعاء بعض الأشخاص لحل الخلاف وتسويته وديًا، وهو ما حدث بالفعل، ظننت أن مشاكلي انتهت وركزت في عملي وحياتي، إلى أن اكتشفت الكارثة.. أثناء سفري من محافظة الدقهلية إلى سيناء، تم توقيفي لإنهاء بعض الإجراءات المعتادة، ففوجئت بصدور أحكام قضائية ضدي في محافظة الشرقية، واضطررت لتقديم معارضة عليها".
عراقي أضاف: "تلقيت اتصالات هاتفية من أشخاص أعرفهم وعرضوا إنهاء كافة القضايا مقابل مبالغ مالية، واستطعت تسجيل مكالمات لهم أقروا خلالها بأنهم وراء جميع القضايا المقامة على الضحايا من أهالي بلدتي في الدقهلية، وعندما علم هؤلاء الأشخاص بأنني سجلت المكالمات، اعتدوا عليّ بالضرب وأحدثوا بي إصابات متفرقة، وعندما توجهت لتحرير محضر في مركز الشرطة، اكتشفت وجود أحكام أخرى ضدي وتم احتجازي 5 أيام للمعارضة، وبعد أن خرجت أجبروني على دفع 25 ألف جنيه عقابًا لي على تسجيل المكالمات، ووجدت نفسي في دوامة لا تنتهي من الابتزاز بدأت بدفع 150 ألف جنيه، ثم طلبوا 350 ألفًا، والتنازل عن منزلي بنفس سعره القديم الذي اشتريته به منذ 4 سنوات، ولا أعرف كيف أتصرف في هذه الكارثة، خصوصًا بعد أن وصل عدد الأحكام الصادرة ضدي أنا وأفراد أسرتي إلى أكثر من 200 حكم".
الأزمة طالت زوجها و8 من أشقائهما
ولاء مصطفى.. محامية في دوامة الأحكام الغيابية

رغم أنها محامية وتعرف القانون جيدًا، إلا أنها دخلت هي الأخرى ضمن ضحايا إيصالات الأمانة الوهمية، وصدرت ضدها وضد عدد من أفراد أسرتها ومعارفها أحكام غيابية في محاكم بعيدة عن محل إقامتها.. المحامية ولاء مصطفى كشفت لـ "فيتو" عن ألاعيب مثيرة يلجأ إليها البعض في إقامة دعاوى تبديد إيصالات الأمانة بقصد ابتزاز الضحايا، وذلك من خلال تجربتها الشخصية.. قالت: "القصة بدأت عندما اكتشفت وجود أحكام قضائية غيابية صادرة ضدي من أشخاص لا أعرفهم ولم أتعامل معهم مطلقًا، حاولت أن أصل إليهم بطرق عديدة ولكني لم أستطع، لأن لكل منهم أكثر من عنوان في مكان مختلف، وبعد بحث وجهد كبير توصلت إلى أن هؤلاء الأشخاص حصلوا على بياناتي وكافة المعلومات الخاصة بي من أحد المتعاملين مع مكتبي، ثم استخدم هذه البيانات في إقامة الدعوى الوهمية ضدي"..
المحامية أوضحت أن الأحكام الغيابية طالتها هي وإخوتها وزوجها وإخوته، وأقيمت هذه الدعاوى في محافظات مختلفة من بينها الشرقية وفي مراكز مختلفة من محافظة الشرقية مثل ديرب نجم وههيا وأبو حماد.
المحامية ولاء مصطفى أكدت أن ما يحدث لها ولبعض الأهالي في الدقهلية يقف وراءه أشخاص على دراية كبيرة بالقانون، ومن المحتمل أنهم يلقون دعمًا من آخرين، خصوصًا أنهم نجحوا في استخراج بطاقات رقم قومي مزورة بعناوين مختلفة، كما أنهم تمكنوا بطريقة غير مفهومة من استخراج مستندات خاصة بالضحايا، من المفترض أنها مستندات وأوراق شخصية لا يستخرجها إلا الشخص بنفسه مثل القيد العائلي، وهو ما يثير علامات استفهام عديدة.
واختتمت المحامية حديثها بالإشارة إلى أنها اكتشفت 11 قضية ضدها، ومثلها ضد زوجها، وعشرات القضايا المماثلة ضد 3 من أشقائها، و5 من أشقاء زوجها، ولم تستبعد وجود قضايا أخرى كثيرة.