جدل في الوسط الفني حول "ضبط القيم" بالدراما.. طارق الشناوي: اتركوا الفن لأهل الفن.. إنعام محمد علي: أنا ضد المبالغة… والمدينة الفاضلة غير موجودة.. محمد هشام عبية: الجمهور يهرب من المثاليات
شهدت الدراما المصرية في السنوات الأخيرة تطورًا ملحوظًا على المستويين الفني والإنتاجي، حيث استعادت قوتها الناعمة عبر تقديم أعمال جمعت بين الجودة والمحتوى الذي يلامس قضايا المجتمع، وتنوعت الإنتاجات بين التاريخية والوطنية والاجتماعية التي أثارت جدلًا إيجابيًا واسعًا، مثل مسلسل "تحت الوصاية" و"لام شمسية" وغيرهما من الأعمال التي أعادت تشكيل الوعي الجمعي.
ورغم هذا الزخم، يظل الخيط الرفيع بين الضبط القيمي وحرية الإبداع محل نقاش دائم في الأوساط الثقافية، والجدل حول وضع معايير للأعمال الدرامية وترك المساحة للمبدعين لتقديم فن حقيقي، وهو النقاش الذي تجدد مؤخرًا عقب تداول أنباء عن صدور "توجيهات" صارمة لصنّاع الدراما، مما استدعى توضيحات رسمية وردود فعل متباينة من النقاد وصنّاع الفن.
نفي قاطع
في البداية، حسمت لجنة الدراما بالمجلس الجدل الدائر حول ما أشيع عن إصدارها توجيهات ملزمة أو قوائم ممنوعات لصنّاع الأعمال الفنية، وفي تصريحات خاصة لـ"فيتو"، نفت الناقدة السينمائية ماجدة موريس، رئيسة لجنة الدراما بالمجلس، صحة هذه الأنباء جملة وتفصيلًا، واصفة إياها بـ"المزيفة"، ومؤكدة أن اللجنة لم تصدر أي بيان أو قرار بهذا الشأن.
وحددت موريس إطار عمل اللجنة في ثلاث نقاط رئيسية، وهي رصد الأعمال الدرامية المصرية حصرًا، وتقييمها فنيًا من حيث الإخراج والتأليف عبر تقارير مفصلة، ومتابعة ردود الأفعال حولها، وشددت على أن عمل اللجنة يبدأ بعد الإنتاج والعرض، ولا علاقة لها بقراءة السيناريوهات أو إبداء ملاحظات قبل التصوير، فلا يوجد أي دور رقابي مسبق على السيناريوهات.
وأوضحت موريس أن سلطة اللجنة تقتصر على الأعمال الصادرة عن جهات إنتاج مصرية فقط، وشددت على أن اللجنة لا تتابع المسلسلات التي تنتجها جهات غير مصرية، حتى وإن كانت ناطقة باللهجة المصرية أو يشارك فيها نجوم مصريون، التزامًا بتبعية اللجنة للمجلس الأعلى للإعلام في مصر.
وهو ما أكدته كذلك الناقدة الفنية وعضو اللجنة، سارة نعمة الله، التي صرّحت بأن اللجنة تتبرأ تمامًا من “التوجيهات” المتداولة، موضحة أن اللجنة ليست جهة رقابة ولا تملك سلطة توقيع عقوبات، بل تكتفي بإبداء الملاحظات والتوصيات حول مدى اتفاق الأعمال مع الأكواد الإعلامية بعد عرضها، وهي التوصيات التي يتم تداولها بشكل خاطئ على أنها توجيهات ملزمة.
غضب النقاد الفنيين
على الجانب الآخر، أثارت الأنباء المتداولة -رغم نفيها- حفيظة عدد من كبار النقاد والمبدعين، فقد شنّ الناقد الفني طارق الشناوي هجومًا لاذعًا على فكرة "التوجيهات"، معتبرًا أن أي محاولة لوضع قواعد مسبقة هي "تضييق على المبدعين" تحت غطاء حماية المجتمع.
وأكد الشناوي في حديثه أن الحل الأمثل المتبع عالميًا منذ عقود هو "التصنيف العمري"، وليس المنع أو الوصاية، مشيرًا إلى أن مصر بدأت تطبيق هذا النظام منذ عام 2012، موضحًا صعوبة وضع معايير مطلقة، مستشهدًا بفيلم "السلم والثعبان" الذي صُنّف (+12) في مصر و(+18) في السعودية، والعكس في فيلم "ولاد رزق 3"، مما يدل على نسبية التلقي.
ورفض الشناوي تحميل الدراما مسؤولية المشكلات المجتمعية، متخذًا مسرحية "مدرسة المشاغبين" التي لطالما قال العديد إنها “أفسدت التعليم”، ومؤكدًا أن تدهور التعليم سببه عدم مواجهة المشكلات الحقيقية وليس الفن، واختتم حديثه بمطالبة من يحاولون تلجيم الفن بالتوقف عن التدخل، قائلًا: "اتركوا الفن لأهل الفن، وعلى المبدعين أن يقاتلوا من أجل حريتهم".
أعمال دعائية موجهة
بينما أكد المؤلف عمرو سمير عاطف أن فرض معايير من جهات غير إنتاجية سيؤدي إلى انهيار مستوى الدراما وتحويلها إلى "أعمال دعائية موجهة" تفتقد للروح وينفر منها الجمهور، مشيرًا إلى أن الموسم الدرامي الماضي كان من أنجح المواسم بفضل التنوع والجودة التي قد تختفي في حال فرض قيود، وأكد عاطف أن من حق المنتج فقط وضع معاييره الخاصة، لكن لا يحق لأي مؤسسة أخرى فرض وصايتها على الإبداع العام.
فأوضح عاطف أنه: “من حق جهة الإنتاج أن يكون لها معاييرها، فكل منتج من حقه أن يضع معاييره الخاصة بالعمل الذي ينتجه، ولكن يجب أن يضع في اعتباره أن هناك جهات أخرى تنافسه”، وشدد على أن هذه المعايير يجب ألا تؤثر على جودة الأعمال"، مضيفًا: "ليس من حق مؤسسة تابعة لوزارة الثقافة أو ما شابه أن تضع معايير للدراما المصرية بشكل عام، لكن ينبغي أن تقتصر هذه المعايير على الأعمال التي تنتجها هذه الجهة فقط لا غير".
وأكد عاطف أن الدراما لا تُصنع لخدمة المجتمع أو لنقل صورة الواقع فقط، قائلًا: "لا يمكن أن أعمل مسلسلًا عن قصة حب، وأدخل فيه توعية ضد مرض السكري، فلكل عمل وظائفه المختلفة".
ورفض المؤلف محمد هشام عيبة فكرة وضع معايير للفن بشكل عام، مؤكدًا أن الفن لا يحتاج معايير، مضيفًا: "إذا خضع الفن لتعليمات أو لمعايير أو لضوابط محددة سلفًا، فسيكون منتجًا موجّهًا لا يخلق جودة فنية ولا يخلق أثرًا".
اتفق جميع المبدعين والنقاد على رفض فكرة تقديم المجتمع في صورة "المدينة الفاضلة"، حيث أشارت ماجدة موريس إلى أن المطلوب ليس تقديم دعاية فجّة، فالجمهور ينصرف عن الأعمال التي يشعر أنها موجهة بشكل أو بآخر، بل يصدق العمل عندما يقدم نماذج إيجابية وملهمة من قلب الواقع الاجتماعي، مستشهدة بمسلسل "تحت الوصاية" الذي خلق حالة حوار مجتمعي راقية.
ومن جانبها، تساءلت سارة نعمة الله باستنكار: "إزاي هنشوف مشاكلنا لو قدمنا مدينة فاضلة؟". وأكدت بصفتها الناقدة – قبل أن تكون عضوة باللجنة – رفضها لأي معايير تقييدية، مشيدة بعدد من الأعمال من الموسم الرمضاني السابق التي قدمت رسائل هادفة، مثل مسلسلات "لأعلى سعر"، "لعبة نيوتن"، "حسبة عمري"، و"ولد الغلابة".
الفن لا يحتاج كتالوج
أما المؤلف محمد هشام عبية، فقد رفض بشكل قاطع فكرة المعايير المسبقة، مؤكدًا أن الفن لا يحتاج إلى "كتالوج"، وأن الدراما ليست مسؤولة عن الجرائم والانحرافات السلوكية التي وُجدت قبل اختراع الكاميرا، وأشار إلى أن دراما "المدينة الفاضلة" لا جمهور لها، لأن المشاهد يبحث عن الصراع والشخصيات التي تشبهه بنقاط ضعفها وتحدياتها، لا عن شخصيات ملائكية.
كما نفى الكاتب عمرو سمير عاطف أن يكون المطلوب من الدراما هو تقديم المواطن المثالي الملائكي، موضحًا: "الدراما تقدم النماذج الاستثنائية الغريبة والمدهشة والجاذبة للمشاهدة، وإذا قدمنا المدينة الفاضلة، فلن يتفرج عليها أحد"، مؤكدًا أن المشاهد ينجذب للقصص التي تقدم صراعًا، وليس بالضرورة أن يتغلب البطل على الشر، ولو لم يحدث ذلك فسوف ينصرف الناس عن متابعة تلك الأعمال ويذهب لمن يقدم له الدراما الحقيقية."
مشاهد البلطجة والعنف
وحول قضية العنف في الدراما، قدمت المخرجة الكبيرة إنعام محمد علي رؤية متوازنة، حيث أكدت رفضها للمبالغة في مشاهد البلطجة والألفاظ الخارجة والتدخين غير المبرر دراميًا، لكنها في الوقت ذاته شددت على ضرورة تسليط الضوء على قضايا الفساد والسلبيات، لأن إظهار المجتمع ملائكيًا هو أمر غير طبيعي بالمرة.
فقالت المخرجة: "أنا بعمل مسلسلاتي من غير سجاير خالص وما فيش حد بينتقدها والناس بتبقى مبسوطة، أعتقد أن هذا يختلف من مخرج لآخر، أنا لا أظهر الشيشة وغيرها إلا إذا كنت أستخدمها في السياق الدرامي، فأنا ضد إن أنا أعمل حاجات عمل على بطّال وغيره وأقول إن هذا نقل للواقع".
وأوضحت إنعام محمد علي أن المبدع هو من يقود ذوق المشاهد وليس العكس، رافضة حجة "الجمهور عايز كده" التي يتغنى بها بعض المنتجين والمخرجين لتبرير العنف والأفعال المبالغ بها في أعمالهم، بينما رأت سارة نعمة الله أن العبرة في مشاهد العنف تكمن في الرسالة المقدمة ومصير الشخصيات الخارجة عن القانون، ليكون ذلك بمثابة درس مستفاد، مع أهمية التنويه بأن العمل من وحي الخيال إذا كان كذلك أو مقتبس من أحداث حقيقية.




