حكايات المسجد الأموي في دمشق وقصة أبوابه ومآذنه
يقع المسجد الأموي الكبير في قلب مدينة دمشق القديمة عند نهاية سوق الحميدية، ويتميز بتفاصيله المعمارية البديعة ومآذنه الثلاث العالية والتي جاء بناؤها على طرز معمارية مختلفة في العصور الأيوبية والمملوكية والعثمانية، ويشغل مساحة 15 ألفا و300 متر مربع، وأدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “يونيسكو” هذه المنطقة على لائحة التراث العالمي.
ويحتضن المسجد الأموي اليوم عددا من أضرحة القديسين والسلاطين والقادة كضريح يحيى عليه السلام (يوحنا المعمدان)، الذي بشر بالسيد المسيح وعمّده، وكان قبلة المسيحيين الراغبين في الصلاة، وضريح السلطان صلاح الدين الأيوبي مؤسس الدولة الأيوبية.
ويتميز المسجد الأموي بساحة الصلاة الداخلية الكبيرة وصحنه الواسع، فيما تغطي جدرانه لوحات من الفسيفساء لجنات من الأشجار والأنهار والحدائق والقصور، وتأخذ قبته اللون الأزرق المائل للرمادي وتعرف بـ”قبة النسر”.

قصة بناء المسجد الأموي
لآلاف السنين، ظل موقع الجامع الأموي في دمشق مكانا للعبادة، بداية من عبادة الإله “حدد” عند السوريين القدماء منذ 3 آلاف سنة، ثم تحول إلى معبد وثني في بداية الميلاد، ثم إلى كنيسة تحمل اسم “يوحنا المعمدان”، الذي بشر بالسيد المسيح عليه السلام.
وبعد الفتح الإسلامي لسوريا تقاسمه المسلمون والمسيحيون. ولقرون طويلة، ظلوا يؤدون صلواتهم جنبا إلى جنب في هذه البقعة، على نداءات المؤذنين ورنين النواقيس، حتى أمر الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك ببناء المسجد الكبير.
ووفقا لوزارة السياحة السورية، دخل الخليفة الأموي السادس في مفاوضات مع المسيحيين في دمشق من أجل الاستئثار بهذا الموقع للمسلمين وبناء مسجد ضخم عليه، وعرض عليهم تعويضهم ببناء عدد من الكنائس.
وعلى يد الخليفة الوليد بن عبد الملك فاتح مدينة دمشق سنة 13 هجرية تحول هذا الصرح العظيم إلى مسجد، فقد أرسل الوليد لملك الروم يطلب منه صُناعًا في الرخام والأحجار يعملون في بناء مسجده الكبير وتشييده وسقّفه بالفسيفساء المذهبة، ويقال إن العمال أثناء البناء وجدوا مغارة فيها صندوق فنزل فيها الوليد وفتحه ليجد رأس يحيى بن زكريا عليه السلام، فأمر بإعادته لموضعه وشراء لوحي رخام فستقيين من الإسكندرية كانا على عرش بلقيس لوضعهما أمام المغارة.
استغرق بناء الجامع الأموي قرابة عشر سنين، بدءًا من ذي الحجة عام ۸٦ هـ / ۷۰٥م، وقد جُند خلالها عدد ضخم من البنائين والمهندسين حتّى كان فتنة للناظرين، ووضعت على نسقه هندسة الجوامع الكبرى في العالم. وقد حافظ على عظمة بنائه وروعة زخارفه قرابة ثلاثة قرون ونصف، ثم تعرض بعد ذلك للحرائق والزلازل، وكان في كل مرة يصاب فيها بجهة من جهاته يفقد شيئًا من بهائه ورونقه، حتّى صار إلى ما هو عليه الآن.
ولاقى المسجد -بعد الانتهاء من بنائه- استحسانا عظيما من أهالي دمشق الذين حمدوا الله وشكروا أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك الذي اعتلى منبر الجامع، وقال جملته الشهيرة في ذلك اليوم "يا أهل دمشق، إنكم تفخرون على الناس بأربع: هواؤكم وماؤكم وفاكهتكم وحمامكم، فأحببت أن أزيدكم خامسة وهي المسجد".
مآذن الجامع الأموي
يشتهر جامع بني أمية الكبير بمآذنه الثلاث، وأعلاها مئذنة العروس، ويقال إنها من أقدم المآذن في الإسلام، وتعرف كذلك بـ”المئذنة البيضاء” و”مئذنة الكلاسة”، وصارت نموذجا للمآذن في أفريقيا والأندلس. ويقال إن مآذن المسجد الكبير، لا سيما “مئذنة العروس”، كان لها دور روحي ديني، وكان الأذان يرفع من أعلاها عبر فرقة المؤذنين، من أجل وصول الأذان إلى أبعد مكان ولإعلام جميع سكان المدينة بالصلاة، وتعكس أبعاد المآذن الثلاث في المسجد دقة التصميم الهندسي، فضلًا عن التفاصيل المعمارية الداخلة في إنشائها، والعناصر الخشبية التي تزينها، وكانت مئذنة العروس تضيء وتتلألأ بالفوانيس المضيئة عند الغروب.
وترجع قاعدة “مئذنة العروس” إلى العصر الأموي، وتحمل نمطه المعماري، لكنها تعرضت لتغييرات عديدة في العهد العباسي والنوري الزنكي وكذلك بداية الفترة الأيوبية عام 570 هجرية وخلال العهد المملوكي.
وتعرف المئذنة الشرقية للمسجد بـ”مئذنة عيسى” وتقع في الزاوية الجنوبية الشرقية، وهي أكثر المآذن الثلاث ارتفاعًا، بطول 77 مترا، وتقف على قاعدة مربعة، يرتكز عليها برج ثماني الأضلاع وتتخلله شرفتان.
ويرجع بناء المئذنة إلى عهد الخليفة الأموي السادس الوليد بن عبدالملك، ويقال إنها تعرضت ذات مرة لحريق هائل، وكان يجاورها سوق الدهشة، وتعرضت للانهيار في القرن السابع الهجري فخرجت عن جوهرها.
وتقع المئذنة الثالثة في الجهة الجنوبية الغربية للمسجد، بنيت في عهد السلطان المملوكي قايتباي عام 1488، وتنقسم إلى 3 أجزاء، وهي مثمنة الشكل، وكانت أول مئذنة تبنى في دمشق على الطراز المعماري المصري.
أبواب الجامع الأموي
للجامع الأموي 6 أبواب: الباب الرئيسي والمعروف باسم "باب جيرون/باب النوفرة"، ويقدر المؤرخون عمره بأكثر من ألف سنة، و"الباب المسدود" الواقع خلف المحراب، والذي كان الخلفاء يدخلون منه قبل أن يتم إلغاؤه، و"الباب القبلي"، و"باب العمارة"، و"باب المحدث"، و"باب البريد".
أحداث تاريخية شهدها المسجد الأموي
شهد المسجد الأموي عبر تاريخه أحداثا جساما كالحرائق والزلازل فعندما قامت المعارك بين العباسيين والفاطميين ووصلت دمشق، وكان أن ترامت الخصوم بالنار اشتعلت ووصلت المسجد، فلم يبق منه إلا الجدران الأربعة وظل على حاله تلك 14 عاما حتى أعيد تجديد عمارته تحت حكم السلاجقة.
وفي عام 740 هـ، نشب حريق دمشق الكبير؛ فاحترق الجزء الأكبر من جانب الجامع الشرقي، ومئذنته الشرقية بالكامل، أما الحريق الأخير فكان عام 1311هـ، وفيه احترق المسجد بالكامل.
لكن أهل دمشق سرعان ما بدؤوا ترميم مسجدهم مرة أخرى واستكملوا بناء المسجد مرة جديدة بعد 9 سنوات فقط من الحريق، ليبدو بالصورة التي هو عليها اليوم بجلاله وزخرفه وجدرانه وقببه، بعد أن شهد لمئات السنوات على صلوات المسلمين وعقد رايات حروبهم، وتدريس علومهم، وإصدار أعدل أحكامهم.
وفي فترة الانتداب الفرنسي تحول الجامع إلى ملجأ للمناضلين ومنظمي المظاهرات التي كانت تخرج من حرمه، فألقيت فيه الخطب، وأعد فيه للمظاهرات، ولم يجرؤ الفرنسيون على اقتحامه طوال فترة استعمارهم سوريا
عمارة المسجد الأموي
تشكل عمارة الجامع الأموي وفنون بنائه اليوم مرجعا أساسيا للفن الإسلامي، مع أن تأثيرات الفن البيزنطي الذي كان ما يزال سائدا في سوريا آنذاك ألهمت صناعه وهو في طور البناء، حيث نال الجامع -الذي يتوسط مدينة دمشق ويمتد على مساحة 15 ألفا و300 متر مربع- قسطا وافرا من المديح والثناء من المتخصصين والزوار
وفيه مساجد صغيرة ملحقة به لكلّ مسجد منها إمام: الشافعي فالحنفي فالمالكي فالحنبلي، وله 3 مآذن: "مئذنة العروس" التي تعد اليوم أقدم مئذنة إسلامية، و"مئذنة النبي عيسى"، وسميت بهذا الاسم للاعتقاد السائد بنزول عيسى عليه السلام إليها نهاية الزمان، و"مئذنة قايتباي" التي استمدت تسميتها من السلطان "قايتباي" الذي أمر بإنشائها.
واشتهر الجامع فيما مضى بزخارفه الفسيفسائية الموشاة بالذهب، التي لم يتبق منها اليوم إلا النذر اليسير، وقال فيها المؤرخون إنها جمعت كل صور بلاد الدنيا، فلم تترك إقليما أو مكانا أو شجرة مثمرة أو غير مثمرة إلا وصورتها، ويحكى أن هذه النقوش بقيت على حالها حتى عهد الخليفة المأمون ومن ثم تمت إزالتها.
كما خضع المسجد لعمليات ترميم عديدة، كان آخرها في تسعينيات القرن الماضي، إذ أعيد ترميم مئذنتي قايتباي والعروس وقبر السلطان صلاح الدين، وتم دهان المسجد كاملا وتدعيم أسقفه.
رمضان في الجامع الأموي
شهر رمضان المبارك ما زال يحتفظ في دمشق بتقاليد وعادات خاصة تميزه عن بقية بلدان العالم الإسلامي، حيث تقام الأنشطة والفعاليات في كافة الجوامع والمراكز الدينية وفي مقدمتها جامع بني أمية الكبير، وخلال فترتي الإفطار والسحور.
تبدأ جوقة المنشدين الخاصة بالجامع الأموي فقرة الإنشاد الديني قبل ساعة أو ساعتين من صلاة الفجر بمشاركة حشد واسع من أهالي مدينة دمشق، وقبل ربع ساعة من أذان الفجر يقام أذان الإمساك، وتتلى آيات القرآن الكريم ثم يرفع المؤذن الأذان.
أما في فترة الإفطار، وقبل موعده بساعة يكلف أحد علماء المدينة بإلقاء خطبة على المصلين المحتشدين في الجامع، تليها أيضا فقرة إنشاد ديني.
وبعد أن يؤدي المصلون صلاة المغرب جماعة يتولى بعض أهالي مدينة دمشق مهمة توزيع ما يعرف باسم "موائد الرحمن" على الفقراء والمحتاجين الذين يتناولون إفطارهم جماعات في باحة الجامع، وأصبح هذا التقليد سائدا في السنوات الأخيرة التي شهدت فيها المدينة أزمات اقتصادية ومعيشية عديدة.
الأذان الجماعي في المسجد الأموي
ينفرد الجامع الأموي بتقليد "الأذان الجماعي"، وكانت جماعة كاملة من المؤذنين تؤدي الأذان في الماضي ليصل صوته إلى أبعد مسافة ممكنة، وبعد أن وُجدت مكبرات الصوت أصبحت فرق الإنشاد تتولى تأدية الأذان الجماعي في باحة المسجد، بوصف ذلك تقليدا خاصا بالجامع الأموي دون غيره.