عباقرة ولكن مجهولون، "عكرمة البربري" تلميذ ابن عباس الذي فاق أستاذه
على مر التاريخ الإسلامي لمعت أسماء عباقرة في مختلف المجالات مثل: ابن الخطاب، والصديق، وعلي بن أبي طالب، وعمر بن عبد العزيز، والبخاري، والشافعي، وابن حنبل، ابن سينا.. ابن رشد.. الكندي.. الفارابي.. الخوارزمي.. الطبري.. أبو حامد الغزالي.. البوصيري.. حتى محمد عبده.. المراغي.. المنفلوطي.. رفاعة الطهطاوي.. طه حسين.. العقاد.. أحمد شوقي.. عبد الحليم محمود.. محمد رفعت.. النقشبندي.. الحصري.. عبد الباسط.. وغيرهم، في العصر الحديث.
لكن هناك أسماء مهمة كان لها بصماتها القوية على العلم والحضارة، ولا يكاد يعرفها أحد.
في هذه الحلقات نتناول سير بعض هؤلاء العباقرة المجهولين.
عِكْرمة البربري "تلميذ ابن عباس الذي فاق أستاذه"
عكرمة البربري، مولى ابن عباس والمتوفى سنة 105هـ، كان مفسرًا مشهورًا ومن كبار التابعين، اشتهر بعلمه الغزير في التفسير والمغازي، ويكاد يصدق فيه قول القائل: "إنه التلميذ الذي فاق أستاذه"؛ على حد تعبير الأستاذ نفسه، ابن عباس، رضي الله عنه.
نسبه
هو عكرمة بن عبد الله البربري، مولى عبد الله بن عباس.
أصله من البربر، ونشأ في المغرب.. والتخصّص: يُعدّ من أعلم الناس بالتفسير والمغازي، وله مكانة كبيرة في هذا المجال.
وُلِد في أول خلافة عثمان نحو عام 25 للهجرة.
وهو أكبر من التابعي المشهور سعيد بن جبير بنحو 20 سنة، وتزوج أمه.
روايته للحديث الشريف
روى: عن ابن عباس، والحسن بن علي، وأبي هريرة، وجابر بن عبد الله، وابن عمر وغيرهم، وأرسل عن أبي بكر وعليّ وسعد بن أبي وقاص، واختُلف في سماعه من عائشة.
قالوا عنه
قيل عنه: "كان عكرمة بربريًا (عبدا) للحصين بن أبي الحرّ العنبري، فوهبه لابن عباس حين ولي البصرة".
وكانت ولاية ابن عباس للبصرة في أوائل خلافة عليّ بن أبي طالب، كرَّم الله وجهه، قبل عام التحكيم.
واستمر عكرمة ملازمًا لابن عباس يخدمه ويتعلم منه إلى أن توفي ابن عباس وهو لا يزال في الرقّ، وبهذا تكون مدّة مكثه عند ابن عباس نحو ثلاثين عامًا، استفاد فيها علمًا غزيرًا مما سمعه من ابن عباس وغيره.
امتاز بالفهم والحفظ السريع، ولما رأى منه ابن عباس النجابة والحفظ ألزمه تعلّم القرآن والأحكام، حتى أنه قال عن ذلك: "كان ابن عباس يجعل في رجلي الكبل، يعلمني القرآن ويعلمني السنة".
وقال عكرمة: "طلبت العلم أربعين سنة فكنتُ أفتي بالباب وابنُ عباس بالدار".
وقال: "قرأ ابن عباس هذه الآية: "لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا". قال: قال ابن عباس: "لم أدرِ أنجا القوم أم هلكوا"، فما زلت أبيّن له أبصّره حتى عرف أنهم قد نجوا. قال: فكساني حلَّة".
عبدٌ عند ابن عباس
وروى ابن سعد، أن هشام بن يوسف قاضي أهل صنعاء عن محمد بن راشد قال: مات ابن عباس وعكرمة عبد؛ فاشتراه خالد بن يزيد بن معاوية من علي بن عبد الله بن عباس بأربعة آلاف دينار؛ فبلغ ذلك عكرمة؛ فأتى عليّا؛ فقال: بعتني بأربعة آلاف دينار؟
قال: نعم.
قال: أما إنه ما خِيرَ لك؛ بعتَ علم أبيك بأربعة آلاف دينار؛ فراح عليٌّ إلى خالد فاستقاله فأقاله فأعتقه".
علمه
وقال أيوب السختياني: "اجتمع حفاظ ابن عباس فيهم سعيد بن جبير وعطاء وطاوس، على عكرمة، فقعدوا فجلسوا يسألونه عن حديث ابن عباس، قال: وكلما حدثهم حديثا، قال سعيد بن جبير هكذا، فعقد ثلاثين، حتى سُئل عن الحوت (حوت سيدنا موسى)، فقال عكرمة: كان يسايرهما في ضحضاح من الماء؛ فقال سعيد: أشهد على ابن عباس أنه قال كانا يحملانه في مكتل، فقال أيوب: أراه كان يقول القولين جميعا".
وعن حبيب بن أبي ثابت: "اجتمع عندي خمسة لا يجتمع عندي مثلهم أبدا: عطاء، وطاوس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة؛ فأقبل مجاهد وسعيد بن جبير يلقيان على عكرمة التفسير؛ فلم يسألاه عن آية إلا فسرها لهما، فلما نفد ما عندهما، جعل يقول: أنزلت آية كذا في كذا، وأنزلت آية كذا في كذا".
أما يحيى بن سعيد القطان، فقال: "أصحاب ابن عباس ستة: مجاهد، وطاوس، وعطاء، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وجابر بن زيد".
وعن عمرو بن دينار: دفع إليَّ جابر بن زيد مسائل أسأل عنها عكرمة، وجعل يقول: "هذا عكرمة، هذا مولى ابن عباس، هذا البحر فسلوه".
وقال عكرمة: "إني لأخرج إلى السوق فأسمع الرجل يتكلم بالكلمة فينفتح لي خمسون بابًا من العلم".
وسئل سعيد بن جبير: تعلم أحدا أعلم منك؟ قال: "نعم؛ عكرمة".
وعن الشعبي: "ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة".
وقال ابن حبان: "كان عكرمة من علماء الناس في زمانه بالقرآن والفقه، وكان جابر بن زيد يقول: عكرمة من أعلم الناس".
وعن قتادة: "أعلمهم بالتفسير عكرمة".
وكان سفيان الثوري يقول بالكوفة: "خذوا التفسير عن أربعة، عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك".
وقال سفيان بن عيينة: "لما قدم عِكرمَة البصرة أمسك الْحَسَن، عَن التفسير".
وقال عمرو بن دينار: "كنت إذا سمعت من عكرمة يحدث عن المغازي، كأنه مشرف عليهم ينظر كيف كانوا يصنعون ويقتتلون".
انتقادات
اتسم عكرمة بكثرة الرواية، فقد وعى علمًا كثيرًا اشتمل على غرائب لا يعرفها كثير من الناس، فأنكر بعضُ التابعين بعضَ حديثه.
وقيل إن بعضهم اتّهامه بالكذب، والأقرب أنهم يريدون الخطأ في الرواية لا أنّه يتعمّد الكذب، ونسبوه إلى أنه يفهم عن ابن عباس ما لم يرده فيحدّث عنه فيكون كاذبًا في تحديثه، ولم تثتبت عليه تهمة الكذب، وما أُنكر عليه من الروايات تبيّن صدقه فيها، وأنّه لم ينفرد بروايتها، بل صحّت عن ابن عباس من طرق أخرى.
تفنيد النقد
ورد هو على هؤلاء، قائلا: "أرأيت هؤلاء الذين يكذبوني من خلفي، أفلا يكذبوني في وجهي؛ فإذا كذبوني في وجهي؛ فقد والله كذبوني".
وحسمت القضية بما رواه أبو إسحاق: سمعت سعيد بن جبير يقول: إنكم لتحدثون عن عكرمة بأحاديث لو كنت عنده ما حدث بها.
قال: فجاء عكرمة فحدثه بتلك الأحاديث كلها.
قال: والقوم سكوت؛ فما تكلم سعيد.
قال: ثم قام عكرمة؛ فقالوا: يا أبا عبد الله ما شأنك؟
قال: فعقد ثلاثين، وقال: أصاب الحديث. وهذا يدلّ على أنّ بعض من نقل عنه ما يُستنكر يخطئ في النقل.
أيضا قال عثمان بن حكيم: "رأيت عكرمة جاء إلى أبي أمامة بن سهل بن حنيف فقال: أنشدك بالله، أما سمعت ابن عباس يقول: ما حدثكم عكرمة عني فهو حق؟ فقال أبو أمامة: بلى".
وهذا توثيق من ابن عباس لعكرمة في حفظه وفهمه، وأنّه يأمنه على ما سمعه منه.
وروى يزيد النحوي عن عكرمة قال: قال ابن عباس: "انطلق فأفتِ الناس وأنا لك عون.
قال قلت: لو كان مع الناس مثلهم أفتيتهم".
واحتجّ به جماعة من الأئمة، منهم: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وإسحاق بن راهويه، والبخاري، وأبو حاتم الرازي، والنسائي، والعجلي، وابن حبان، وغيرهم.
بل قال البخاري: "ليس أحد من أصحابنا إلا احتجّ بعكرمة".
ويصف العجلي عكرمة بالقول: "مكي، تابعي، ثقة، بريء مما يرميه به الناس من الحرورية (المُحَكِّمة أو الحرورية هم فرقة مِن فرَق الخوارج)".
وقال ابن جرير فيما نقله المنذري: أتعجَّب كلَّ العجب مِمَّن عَلِمَ حال عكرمة ومكانه من عبد الله بن عباس، وطول مكثه معه وبين ظهرانَيْ أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم؛ ثمَّ مَنْ بَعْدَ ذلك من خيار التابعين والخالفين وهم له مقرِّظون، وعليه مُثْنون، وله في العلم والدِّين مقدِّمون، وله بالصدق شاهدون؛ ثم يجيء بَعْدَ مُضيِّه لسبيله بدهرٍ وزمان نوابغُ يجادلون فيه من يَشْهَدُ له بما شهد له به مَنْ ذكرْنا من خيار السلف وأئمة الخلف: من مُضيِّه على ستره وصلاحه وحاله من العدالة وجواز الشهادة في المسلمين؛ فإن كل ما ذكرنا من حاله عمن ذكرنا عنه لا حقيقة له، ولا صحة خبر أورِدَ عنهم: لا صحة له عن ابن عمر أنه قال لمملوكه: يا نافع لا تكذب عليَّ كما كذب عكرمة على ابن عبد الباسط.
وقال محمد بن نصر المروزي: "قد أَجْمَعَ عامَّةُ أهل العلم على الاحتجاج بحديث عكرمة، واتفق على ذلك رؤساء أهل العلم بالحديث من أهل عصرنا، منهم: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، ويحيى بن معين؛ ولقد سألتُ إسحاق بن راهويه عن الاحتجاج بحديثه؟ فقال لي: عكرمةُ عندنا إمام الدنيا، وتَعَجَّبَ من سؤالي إيَّاه".
روى عنه زُهاء ستمائة رجل من أئمة البلدان فيهم زيادة على سبعين رجلًا من خيار التابعين ورفعائهم، وهذه منزلةٌ لا تكاد توجد لكبير أحد من التابعين إلاَّ لعكرمة مولى ابن عباس، رحمة الله عليه.
من وصاياه
قال أرطاة بن أبي أرطاة: رأيت عكرمة يحدّث رهطا فيهم سعيد بن جبير؛ فقال: إن للعلم ثمنًا قيل: وما ثمنه يا أبا عبد الله؟ قال: "ثمنه أن يضعه عند من يحسن حمله، ولا يضيعه".
وفاته
رجَّح الواقديُ أن عِكرمة تُوُفي سنة خمس ومائة وهو ابن ثمانين سنة.
وروى ابن سعد: "مات عكرمة وكثير عزة الشاعر في يوم واحد سنة خمس ومائة , فرأيتهما جميعا صلي عليهما في موضع واحد بعد الظهر في موضع الجنائز؛ فقال الناس: مات اليوم أفقه الناس وأشعر الناس".
وعن مالك بن أنس عن أبيه قال: "أُتي بجنازة عكرمة مولى ابن عباس وكثيّر عزة بعد العصر فما علمت أنَّ أحدًا من أهل المسجد حل حبوته إليهما".
وعن الأصمعي، عن ابن أبي الزناد: مات كثير وعكرمة مولى ابن عباس في يوم واحد. فشهد الناس جنازة كثير، وتركوا جنازة عكرمة.
وعلَّق الذهبي، قائلا: "ما تركوا عكرمة - مع علمه - وشيعوا كثيرا إلا عن بلية كبيرة في نفوسهم له رضي الله عنه".
وقد ذكر في سنة وفاته أقوال أخرى، حيث قال علي بن المديني: مات سنة أربع ومائة.
وقال آخر: مات سنة سبع ومائة. والأصح قول الذهبي: سنة خمس.