فيتو
رئيس التحرير
عصام كامل

شموخ وبلاغة، مواقف تاريخية لا تنسى لعميد الأدب "طه حسين" تحت قبة البرلمان

طه حسين فى البرلمان
طه حسين فى البرلمان

ضرب عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، والذي رحل عن عالمنا فى مثل هذا اليوم من العام 1973، مثالا يحتذى به في النزاهة والفكر والبلاغة تحت قبة البرلمان، فقد تميز شموخه واعتداده برأيه في مناقشاته البرلمانية، مما جعل حضوره علامة فارقة في تاريخ الحياة النيابية المصرية. 

وقد وصفه الصحفي محمد نزيه في مجلة الاثنين الصادرة في أكتوبر 1951، قائلًا: "إن الدكتور طه حسين باشا، وكان حينها وزيرًا للمعارف، كان يدخل قاعة مجلس النواب مستندًا إلى ذراع سكرتيره فريد شحاتة في وقار وهيبة، ويتخذ طريقًا جانبيًا نحو مقعده بين الوزراء كأنما يتجنب الأضواء، ثم يجلس في الصف الأول بهدوء بعد أن يرشده سكرتيره ويغادر القاعة، في مشهد يجسد التواضع والعظمة في آن واحد".

 

الدكتور طه حسين 
الدكتور طه حسين 

وطه حسين لا يظهر فى البرلمان أو فى غيره إلا انيقا، ترى عليه ياقة ناصعة البياض، ورباط عنق محبوك يناسب لون البدلة الرمادى، حيث كان معظم بدله من اللون الرمادى، وطربوشه مائل الى الطول يلازم رأسه شتاء فقط.

جلسة الرد على خطاب العرش 

عميدنا طه حسين لا يحضر مجلس الشيوخ أو مجلس النواب إلا من أجل شئون التعليم فقط، ولا يتكلم تحت القبة إلا عن التعليم، وحين دخل مجلس النواب لأول مرة استقبله النواب بالتصفيق الحاد، حيث حضر هذه الجلسة وكانوا يناقشون الرد على خطاب العرش فى أكتوبر 1951.

ضرورة العلم كالماء والهواء 

طلبوا من طه حسين أن يتكلم ويطربهم بكلامه فوقف فى مكانه وتحدث عن التعليم وضرورته كالماء والهواء، وسخر من الوزارة التى حكمت البلاد قبل الوزارة الحالية وقال وهو يضحك: إنها منعت نشر مقال له عن التعليم بعد أن فحصه فحصا دقيقا، ولم يجد ما يدعوها إلى المنع،  لكن رئيس الوزراء حينذاك قال: إنى أعرفه ــ طه حسين ــ كلامه كله مسموم عادة.

كان النواب يصفقون بين كل جملة وأخرى، ذلك أن أسلوب طه حسين المرتجل هو أسلوب الكاتب والأديب، صوته هادئ متزن، وكل حرف ينطقه يخرج من بين شفتيه شديد الوضوح، فطه حسين لا يخطب إلا مبتسما ولا يظهر عليه الانفعال أبدا لا بالصوت ولا بالحركة، لا يحرك يديه وهو يتكلم، يقف زنهارا كأنه جندى فى الصف، وإذا سخر ازداد ابتساما، وكل فكاهاته مبنية على السخرية.

طه حسين يعتد برأيه 

خرج طه حسين من تلك الجلسة سعيدا، لقد خيل له أنه بينه وبين النواب ما بين الحكيم وتلاميذه، أو ما بين شيخ الطريقة والمريدين.

تطبيق كادر القضاة على الأساتذة 

قدم طه حسين فى تلك الجلسة مشروع القانون الذى يقضى بتطبيق كادر القضاء على رجال الجامعات، فإذا بالعضو عبد الفتاح الشلقانى يحمل عليه ويتهم رجال الجامعات بالتربح الكثير من بيع كتبهم ومذكراتهم للطلبة، هنا وقف طه حسين وقاطعه بشدة وقال إنه لا يقبل التعريض برجال الجامعات ولا يطيق أن تمس كرامة المعلمين.

وهاج الشلقانى واستكثر على طه حسين أن يقاطعه، وعاونه نواب آخرون فسكت وزير المعارف من هول المفاجأة واستمر العضو فى قوله ثم عاد إلى مقعده، فوقف وزير المعارف وقال إنه يدهشه أن يكون هذا مبلغ احترام الشلقانى لمن علموه العلم، فهبت العاصفة مرة أخرى.

وهنا وقف نائب شاب وأشاد بالقضاة والمعلمين واستمر فى الإشادة ورفع قدر المعلمين حتى استراح طه حسين وهدأ، ووافق المجلس بالإجماع على مساواة رجال الجامعات بالقضاة، فقد عرف النواب والشيوخ فى حسين أنه يصر على رأيه ويدافع عنه دفاعا شديدا.

العميد بارع في حيله 

وكان طه حسين قد رأى أن يكون اختيار العمداء فى جامعة القاهرة بالتعيين، فتصدى له بعض النواب مدافعين عن حرية الجامعة واستقلالها، ودافع هو عن رأيه، ولما شعر أن دفاعه قد لا يثمر تظاهر بأنه لا يصر على رأيه، وأن المناورة قد لاتثمر، عمد إلى الحيلة وطلب من النواب أن يقبلوا رأيه وأن يعدلوا عنه حين مناقشته إذا اتضح لهم عند المناقشة أنه ليس رأيا سديدا وأن ذلك لن يكلفهم إلا أن يضع أحدهم مشروع قانون يتوافقوا عليه.

إسقاط انتخاب العمداء 

انتقل مشروع القانون إلى مجلس الشيوخ، فإذا بطه حسين يواصل الجهاد ويستعين بأصحابه القدماء من الشيوخ على إقرار رأيه، وينجح فى ذلك ولا يجد المجلسان مفرا من تأليف لجنة من بعض الشيوخ والنواب لتسوية الخلاف سميت لجنة التوفيق التى رأت بالاغلبية ما رآه طه حسين، ورأت حكمة رئيس النواب أنه ليس من الحكمة تحدى الدكتور طه حسين إمام البيان وبطل مجانية التعليم فوافق المجلس على التعيين وأسقط الانتخاب بقوة وإصرار طه حسين.

سلطان الضمير هو الحكم 

بعد بضعة أشهر عدل القانون وصار تعيين عمداء الكليات بالانتخاب بموافقة طه حسين نفسه، فهو لا يطيق أن ينهزم ولا يقبل أن يكون عليه سلطان إلا الضمير.