السد العالي.. الحلم الذي روّض النيل وغيّر وجه مصر
على الضفة الجنوبية في قلب الصحراء، يقف السد العالي، شاهدًا على إرادة أمة انتزعت زمام مصيرها من يد الطبيعة واستطاعت أن تتعامل معها وتحولها من خصمٍ إلى شريك، لم يكن ما ارتفع في جنوب أسوان جدارًا حاجزًا للمياه العاتية فحسب، بل كان سدًا في وجه الضعف والخوف والتبعية، ونقطة فاصلة بين مصر التي كانت تعيش على إيقاع النهر، وتلك التي باتت تكتب مستقبلها بيدها وتوجّهه وفق احتياجاتها.
علاقة النهر بالمصريين
كانت العلاقة بين النهر وسكاني الوادي علاقة غير متكافئة، النهر ظل لآلاف السنين يتحكم في شكل حياة المصريين، ما بين فترات الجفاف الثقيلة وفترات الفيض والخير، حينها راودهم حلم تسخيره والسيطرة عليه، غير إن الظروف السياسية والاقتصادية التي مرت بها البلاد عبر عصور، حالت دون تحقيقه حتى النصف الثاني من القرن العشرين.
فكرة إنشاء السد
استقرت فكرة إنشاء السد، في وجدان المصريين، ودخلت طور التخطيط بشكل واضح في بدايات القرن العشرين، بمقترح بناء منشأة كبرى للتحكم في مياه النيل وضمان تدفقها على مدار العام، لكن المشروع ظل حبيس الأوراق لعقود طويلة، والحلم بدا عصيًا على التحقق، لغياب الإرادة السياسية في بلد لا يمتلك زمام أموره في ذلك الوقت.
في عام 1952، تجسّد ذلك الحلم في عقل المهندس المصري اليوناني أدريان دانينوس، الذي اقترح إنشاء سد عظيم في أسوان، يحجز الفيضان الجارف، ويؤمن احتياجات البلاد من المياه، ويولّد طاقة كهربائية تدفع بعجلة التنمية في وطنٍ كان يتطلع إلى النهوض من جديد.
مع ثورة يوليو 1952 وصعود الرئيس جمال عبد الناصر، تغيّر المشهد، وعاد الحلم إلى الواجهة مرة أخرى، وتبنت الدولة مشروع السد العالي باعتباره أحد أعمدة بناء مصر الحديثة، وأداة لتحقيق الاستقلال الاقتصادي والسياسي، وركيزة لتنمية زراعية وصناعية، في ظل عهد جديد يسعى إلى تحقيق معدلات واسعة للتنمية، فتحول المشروع من مجرد فكرة إلى ملحمة وطنية، وجزء من معركة مصر الكبرى من أجل الاستقلال والسيادة على مواردها.
أزمة التمويل
لم يكن الطريق لبناء السد العالي ممهدًا، بل اصطدم منذ بداياته بعقبات سياسية واقتصادية كبرى، فبينما كانت تعول مصر على قروض غربية لتمويل المشروع، بعدما عرضت الولايات المتحدة قرضًا بقيمة 270 مليون دولار للمشاركة في تمويل المشروع، سحبته فجأة، نتيجة خلافات سياسية مع القاهرة، أبرزها توقيع صفقة السلاح التشيكية، واعتراف مصر بالصين الشعبية.
وتبع ذلك موافقة البنك الدولي على تمويل ربع التكلفة الإجمالية، غير أن العرض جاء مشروطًا بقيود سياسية أمريكية وبريطانية وصفتها القاهرة بـ”الاستعمارية”، فرفضته مصر.
موقف أمريكا من تمويل السد
تراجع البنك الدولي والولايات المتحدة الأمريكية عن التمويل والشروط البريطانية، وضع الدولة أمام خيارين: إما التراجع عن المشروع أو البحث عن طريق بديل، وبالفعل اقدمت مصر على خطوة حاسمة غيّرت مسار التاريخ بقرار تأميم قناة السويس في يوليو 1956.
تأميم قناة السويس
لم يكن قرار التأميم مجرد قرارًا اقتصاديًا، بل إعلانًا عن استقلال وطني وسياسي صريح، فاستطاعت مصر من خلال عائدات القناة، بالإضافة إلى الدعم التقني والمالي الكبير من الاتحاد السوفييتي آنذاك، من تمويل المشروع.
إعلان بناء السد العالي
وفي عام 1960، أُعلن الرئيس جمال عبد الناصر، رسميًا عن بدء إنشاء السد في مدينة أسوان، ليصبح المشروع الأكبر من نوعه في تاريخ مصر الحديث، وأحد أعظم مشروعات التحكم في المياه في العالم آنذاك.وانطلقت المرحلة الأولى من البناء، حيث شُقت قناة التحويل، وحُفرت الأنفاق، وطُبقت بطاناتها بالخرسانة المسلحة، كما أُنشئت أساسات محطة الكهرباء، وارتفع جسم السد تدريجيًا حتى بلغ 130 مترًا.
اتفاقية مع الاتحاد السوفييتي
وفي المرحلة الثانية، وقّعت مصر اتفاقية جديدة مع الاتحاد السوفيتي لتوفير التمويل اللازم لاستكمال المشروع. وفي عام 1964، جرى تحويل مجرى النيل إلى قناة التحويل والأنفاق، لتبدأ أولى قطرات المياه في التجمّع خلف السد، معلنةً بداية فصلٍ جديد في علاقة مصر بنهرها الخالد. واستمر البناء بوتيرة متسارعة حتى اكتمل تشييد جسم السد وتركيب التوربينات العملاقة، مع إقامة محطات المحولات وخطوط نقل الكهرباء التي حملت النور إلى ربوع البلاد.
وفي عام 1967، دبت الحياة في قلب السد، حين بدأت محطة الكهرباء إنتاج الطاقة، تلاها عملية بدء تخزين المياه رسميًا في 1968. وبعد سنواتٍ من العمل الشاق، اكتمل البناء في عام 1970.
معادلة التنمية في مصر
في عام 1971 وبعد أكثر من عقد من العمل المتواصل ومشاركة عشرات الآلاف من العمال والمهندسين المصريين والأجانب، اكتمل بناء، واحتفل المصريون بصرحهم العظيم، حيث جاء المشروع في أرقام غير مسبوقة، يقدر ارتفاعه 111 مترًا، وطول يبلغ نحو 3.8 كيلومتر، وسعة تخزينية تقترب من 160 مليار متر مكعب خلفه في بحيرة ناصر التي تمتد لمسافة تزيد على 500 كيلومتر، وتعد واحدة من أكبر البحيرات الصناعية في العالم.
إيجابيات إنشاء السد
كان تأثير المشروع على مصر شاملًا وعميقًا في مختلف المجالات، حيث أوقف السد الفيضانات المدمرة التي كانت تغرق القرى وتدمر المحاصيل، كما وفر احتياطيًا مائيًا استراتيجيًا يُستخدم في فترات الجفاف، مثلما حدث في ثمانينيات القرن الماضي عندما تراجعت فيضانات النيل لعدة سنوات.
كما أنه أتاح تنظيم تدفق المياه زراعة الأراضي على مدار العام بدلًا من الاعتماد على موسم الفيضان فقط، ما أدى إلى زيادة الإنتاج الغذائي والتوسع في زراعة المحاصيل الاستراتيجية.
وفي مجال الطاقة؛ كان السد مصدرًا رئيسيًا للطاقة الكهرومائية النظيفة التي ساهمت في إنارة الريف وتشغيل المصانع ودعم خطط التصنيع الوطني، مكن الدولة من تنفيذ خطط طموحة في الزراعة والصناعة والإسكان، وأسهم في استقرار المجتمع الريفي ورفع مستويات المعيشة.
ظاهرة غرق طرح النهر
واجهت مصر بعد بناء السد تحديات بيئية أخرى ظهرت بعد التشغيل، وأبرزها ظاهرة غرق مناطق طرح نهر النيل، التي طفت على السطح خلال الأيام الماضية بشكل واسع، طرح النهر هي الأراضي المنخفضة المحيطة بالمجرى الرئيسي للنهر، فهي جزءا منه وامتدادا له، بل أنها غير مخصصة للزراعة بالرغم من خصوبتها وخبراتها، لكن لا سبيل لمنع المياه من التدفق وأنها معرضة للغمر في أي وقت خصوصًا في مواسم الفيضانات والأمطار الموسمية.
وارتبطت ظاهرة غرق طرح نهر النيل في عدد من المحافظات على رأسها “ المنوفية، البحيرة، الغربية، الشرقية”، بتغيير دورة الفيضان الطبيعية؛ فبدلًا من انحسار المياه تدريجيًا كما كان يحدث قبل بناء السد، أصبح يفرج عنها وفق خطط تشغيل قد تؤدي أحيانًا إلى ارتفاع مفاجئ في منسوب المياه، خصوصًا عند زيادة المخزون أو تشغيل محطات الري والصرف.