حديث الأربعاء
الغيبيات والماديات والعلاقة المشتركة
ليكن حديث هذا الأربعاء عن جدلية قديمة قِدَم الإنسان وما زال الجدل حولها قائما وما أظن أنه سينتهي أبدا، هي جدلية متعلقة بالعلاقة المشتركة بين الغيبيات والماديات، بين الروح والمادة، بين الحسي والمعنوي..
فقديما كان صراع النظريتين سببا رئيسا في خلق جميع الفلسفات بداية من الفلسفة اليونانية ومرورا بالفلسفة الإسلامية وانتهاءا بالفلسفة الحديثة والمعاصرة.. لكنّي لست بفيلسوف كي أخوض بكم في هذا العالَم المتشعب..
لكن اكتب فيما أتصوره وبكل بساطة وبدون الدخول في جدل لا جدوى منه، فكلٌ يحمل قناعاتٍ من الصعب تغييرها من خلال مقال كمقالي هذا، فقط اطرح وجهة نظر وكلٌ يؤخذ منه ويُرد إلا القرآن الكريم.
البعض يُنكر الغيبيات ويرى أن الماديات هي أساس كل شيء في الكون بما فيه الإنسان، وهذا الاعتقاد بالطبع ناتج عن عدم إيمان بوجود إله خالق، وبالتالي هو لا يؤمن بالغيبيات ولا بما وراء الطبيعة..
في المقابل تجد المؤمن بوجود الله لذلك يؤمن بكل الغيبيات التي أخبرنا بها الله في كتبه السماوية وعلى ألسنة أنبيائه ورسله.. نؤمن بالله ولم نرَه، نؤمن بالآخرة وبوجود الحساب وما يعقبه من جنة أو نار رغم أننا لم نرَها، ونؤمن بالملائكة ولم نرَها..
هذا الإيمان بالغيبيات هو ركن أصيل وثابت من أركان الإيمان بالله عالم الغيب والشهادة.. هذا الإيمان هو أحد خصائص عباد الله المتقين الذين وصفهم الله بالإيمان بالغيب حين قال في أول سورة البقرة: ﴿ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾..
كذلك الله -عز وجل- أمر نبيه -عليه الصلاة والسلام- أن يخبر الناس أنَّه بشر مثلهم لا يعلم الغيب: (قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
فعندما يكون الإيمان بالغيب هو دليل إيماني بالله؛ فكيف يحاول أحدهم أن يقنعني بأنه طالما أنني لم أرَ الله فكيف أُومِنُ به، وهذا بالطبع دليل على إنكاره وجود إله خالق، وأن كل شيء مادي ومحسوس هو الصحيح عنده، وما دونه فهو من الأساطير والتخاريف والخزعبلات!
ومن العجيب أيضا أن من يجادل في الغيبيات ويؤمن بالماديات تجده يستعمل ذلك العقل، وكأن العقل أداة مادية محسوسة، ويؤمن بوجود الروح بداخله وهي من الغيبيات أيضا فهي من أمر ربي فلا يعلمها إلا الله!
هذا يذكرني بحوار قرأته عن الإمام أبي حنيفة -رضي الله عنه- مع رجل منكر لوجود الله وبالتالي هو منكر للغيب ككثيرين معاصرين يسخرون من كل ما هو غيبي ويستهزئون من المؤمنين بذلك الغيب.. وهذا نص الحوار المنقول:
"ذات مرة سأل رجل جاحد الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه وقال له: "هل رأيت ربك ؟ فقال الإمام أبو حنيفة: سبحان ربي لا تدركه الأبصار.. فقال له هل لمسته ؟ هل شممته؟ هل سمعته؟ وهل ذقته؟ فقال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه:سبحان ربي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فقال الجاحد: فإذا لم تكن رأيته ولا لمسته ولا شممته ولا أحسسته فمن أين قلت أنه موجود؟
فقال الإمام أبو حنيفة لهذا الجاحد: يا هذا، هل رأيت عقلك؟ قال الجاحد لا.. قال أبو حنيفة هل سمعت عقلك؟ قال الجاحد: لا.. قال الإمام أبو حنيفة هل شممت عقلك؟ قال الجاحد: لا.. قال أبو حنيفة هل أحسست عقلك؟
قال الجاحد: لا.. قال له الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه: أعاقل أنت أم مجنون؟ قال الجاحد: أنا عاقل.. قال له أبو حنيفة: فأين عقلك؟ قال له الجاحد: موجود.. قال له الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه. كذلك الله جل جلاله موجود".
إذن كيف نستدل على عدم وجود الغيب بأداة غيبية لكن خلقها الله فينا كما خلق الروح والجسد! كيف نستدل بهذا العقل على عدم وجود خالقه وخالق صاحب العقل ذاته!. وهل يستطيع أي منكر لوجود الله أن ينكر وجود العقل والروح لأنهما من الغيبيات!.
لقد خلق الله لنا عقولا كي نفكر بها في خلق الله وفي كونه، فالعقل أداة تفكر وتدبر ليستدل الإنسان بها على وجود الله وعلى حقيقة كل الغيبيات في السماوات والأرض، وفي الدنيا والآخرة وليس لإنكار وجود كل ذلك.
وفي ذلك يقول الرازي عند تفسيره لقول الله: (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض): " إن الاستدلال بالخلق على الخالق لا يمكن وقوعه على نعت المماثلة، إنما يمكن وقوعه على نعت المخالفة، فإذن نستدل بحدوث هذه المحسوسات على قِدمِ خالقها، وبكميتها وكيفيتها وشكلها على براءة خالقها عن الكمية والكيفية والشكل، وقوله عليه الصلاة والسلام: "من عرف نفسه عرف ربه" معناه من عرف نفسه بالحدوث عرف ربه بالقِدمِ، ومن عرف نفسه بالإمكان عرف ربه بالوجوب، ومن عرف نفسه بالحاجة عرف ربه بالاستغناء".
لا تعارض بين الماديات والغيبيات فكلٌ منها خلقها الله، فلا يجب أن يبقى الإنسان في عالم الغيبيات وحدها فيصبح وكأنه مغيب عن الوعي وعن الوجود فالله حثنا على العمل والسعي وطلب العلم لتستمر الحياة..
كذلك ليس من الصحيح أن يبقى الإنسان منكبا على الحياة الدنيا بمادياتها وواقعها القاسي المتجهم، متجاهلا كل ما هو روحاني ومعنوي، فالسعادة وراحة البال لا تأتي إلا حين يكون الإنسان متوازنا بين تحكيم العقل ومقتضيات العاطفة، بين سمو ورقي الروح ومستلزمات الجسد، متوازنا واعيا عند الإيمان بالغيبيات وتفعيل الماديات في منظومة حياتية متكاملة.
Nasserkhkh69@yahoo.com