فيتو
رئيس التحرير
عصام كامل

وزير في مهمة انتحارية

يبدو أن أحدًا قرر هذه المرة الدخول إلى عش الدبابير واختار أن يطهر “تل العقارب” طواعية، فمنذ سنوات الصبا وأنا أقرأ مثل غيري عن الخلاص من دولة الروتين وإزالة كل معوقات التنمية، وعلى رأسها قمة الجبل المترس بعشرات القوانين وآلاف القرارات الإدارية المعوقة للاستثمار في مصر.

 

وحكومة تأكل حكومة ولا تزال كومة العفن الإداري تنهش فى لحم البلد الواعد، فلا هو يتحرك ولا الحكومات قادرة على عبور هذا المستنقع الرهيب. ومع اجتهادات شخصية لا تطال العمق وتطفو فقط فوق السطح، رأينا محاولات لا تزال في طور الطفولة البريئة التي لا تعبر بوطن بحجم مصر إلى بر الأمان.

 

تتشعب دولة الروتين في مصر إلى أبعد من تصورات المقيم فيها مواطنًا، فما بالك بالقادم راغبًا فى رسم ملامح مستقبله الاستثماري على أرضها، هذا التمدد كما لو كان بيت عنكبوت منسوج بخيوط حديدية تصدأ فيزداد تماسكها وتتعاظم قوتها إلى الحد الذي جعل كثيرين يرددون في فترات تاريخية متباعدة: “مفيش فايدة”.

 

دعاني مع نخبة من الزملاء والكتاب الصحفيين السيد حسن الخطيب وزير الاستثمار إلى حوار مفتوح حول ما هو قادم، حول المستقبل القريب، حول ما عملت عليه وزارته بالتعاون مع جهات وإدارات ووزارات وهيئات تمتد جذورها في صعيد مصر من أجل الوصول إلى الهدف، إلى بؤرة الصراع المتمدد عبر أجيال بين الرغبة فى الخروج من عنق الزجاجة وذلك المجهول المعلوم الذى يشد الوطن إلى القاع.

 

وبينما كان الرجل يستعد بعرض مجهز تجهيزًا فنيًا عاليًا على شاشة كبيرة من خلفه، كنت أنا على استعداد للاستماع إلى خطبة عصماء مثل كل تلك الخطب التى تابعتها تلميذًا في الثانوى وطالبًا في الجامعة وصحفيًا في مؤسسات عدة عملت بها وكتبت فيها عن مثل المنطوق المتكرر.

 

وبدأ الوزير عرضه بالحديث عن “بكره” أو ملامح ما تخطط له الدولة المصرية، وغاص عميقًا في بحر لجي يغشاه موج من فوقه سحاب، وبدأ يسرد قصة الظلمات التي تغرق كل محاولة في مهدها. توقعت أن يقول الرجل ما قاله مفكر السياسة الخارجية الأمريكية كيسنجر:

عندما تولى كيسنجر وزارة الخارجية، رأوه وهو يأتي إلى مكتبه صباحًا، يوقع أوراقًا ويناقش أفكارًا عادية ثم يعود إلى منزله. سألوه: كنا نتصور أن توليك هذا المنصب سيحدث تغييرًا كبيرًا. رد الرجل قائلًا: إن “تروس الإدارة الأمريكية أقوى وأكبر من أن يحركها فرد حتى لو كان كيسنجر!!”.

 

هذا ما قاله مفكر مخضرم عن دولة ربما لا يزيد عمرها على ثلاثمائة عام أو يزيد قليلًا، فما بالكم ونحن بصدد أقدم دولة فى التاريخ؟ كيف بَنَت قلعة الروتين أعمدتها؟ وكيف مدت أطوالها؟ وكيف تجذرت فى أعماق الأرض؟ وكيف أصبحت عبئًا لا يضاهيه عبء؟!

 

كان الوزير أكثر شفافية عندما بدأ عرضه بسؤال حول التغيرات الكبرى التي يشهدها العالم صراعًا ونحتًا لخارطة جديدة، قائلًا: هل لدينا فرصة في مستقبل أفضل وسط هذا العالم المتخم بالصراعات؟ وقال: الإجابة: نعم لدينا فرصة كبيرة ليس فقط بسبب موقعنا الجغرافي، ولكن لأن لدينا ما نقدمه للعالم، خصوصًا وأننا نحظى بتقدير كبير بسبب توازن سياستنا الخارجية وأدائنا الحضارى وفرصنا في محيط إقليمى مهم، إضافة إلى قدرتنا على المنافسة بما تحظى به بلادنا من مزايا.

المنصة الرقمية

وبدأ الوزير في طرح أسباب إنشاء المنصة الرقمية حيث ضرب مثالًا لمستثمر أراد إنشاء مصنع منسوجات في مصر، فماذا عليه أن يفعل وصولًا إلى التشغيل؟ يتعامل مع 11 جهة حكومية ويقوم بأكثر من 24 طلب خدمة.

يبدأ المستثمر بالتقدم إلى الهيئة العامة للتنمية الصناعية طالبًا تخصيص قطعة أرض صناعية، ثم يتسلم محضر تسليم الأرض، ثم الحصول على بيان صلاحية الموقع من الناحية التخطيطية والاشتراطات البنائية، ثم يتقدم للشهر العقارى لتحرير توكيل أو تفويض لمهندس للسير في إجراءات الترخيص.

يتقدم بعدها المستثمر إلى الهيئة العامة للمساحة أو وزارة الطيران المدنى للحصول على شهادة منسوب قطعة الأرض والحصول على شهادة إحداثيات أو خريطة مساحية، ومن وزارة الطيران يحصل على ترخيص ارتفاع، ثم يتوجه إلى ثلاث جهات هي: التنمية الصناعية ووزارة الطيران وهيئة عمليات القوات المسلحة لإصدار ترخيص ارتفاع أكثر من 15 مترًا.

ثم تمتد رحلة المستثمر لطلب أكثر من 13 خدمة أخرى من جهات ووزارات وهيئات، مجرد قراءة مشوار المستثمر على الورق يدفعك دفعًا إلى طرد فكرة البقاء في مصر من أساسه. فماذا فعل الوزير ومعه فريق عمل يتواصل مع كافة الوزارات والجهات؟

عقدت الوزارة عددًا من جلسات الاستماع ولقاءات عصف ذهني مع كل من يتقاطع أو يتعامل بشكل مباشر أو غير مباشر مع المستثمر لإنشاء منصة التراخيص الخاصة بالهيئة العامة للاستثمار، والتي انطلقت في شهر يونيو الماضى وبدأت العمل الفعلي.

تقدم المنصة 389 خدمة ترخيص، وسُجِّل عليها 39 دليل تراخيص تحقيقًا للشفافية، مع نشر قوائم مختومة وموقعة تضم الخدمات والرسوم لتمكين المستثمر من الاطلاع عليها بشفافية ووضوح. وعلى المنصة 41 جهة حكومية مصدرة للتراخيص، وعليها 115 مفوضًا معتمدًا بصلاحيات الدخول، وجاري تطوير المنصة عبر إدراج دفعات جديدة من الخدمات.

نقلة نوعية

هذه النقلة النوعية التي أصبحت أمرًا واقعيًا تحدث الوزير عنها معبِّرًا بأنها ليست نهاية المطاف، مؤكدًا أن المتابعة تكشف لنا الأخطاء التي نعمل على تطويرها من أجل تخفيف الأعباء وتحقيق الشفافية وضمان العمل وفق منهج علمي قادر على القيام بالدور المطلوب.

منظومة اللوائح والقوانين والقرارات كانت تتعامل مع المستثمر باعتباره فرصة لفرض الرسوم. دخلت الوزارة على خط الأزمة بتحولات كبرى، فعلى سبيل المثال تقرر إلغاء نسبة الـ 1٪ من أرباح الشركات التى كانت تؤول إلى صندوق تمويل التدريب والتأهيل، واستبدالها بـ 2,5٪ من الحد الأدنى للأجر التأميني، مع إعفاء الشركات التي تنفذ برامج تدريبية معتمدة للعاملين.

وخاطبت الوزارة مجلس الوزراء -حسب قول الوزير- لتعديل آلية احتساب نسبة المساهمة التكافلية ليتم احتسابها من صافي الربح بدلًا من إجمالى الإيرادات، وقامت الوزارة بإجراء حصر شامل لأول مرة لجميع الرسوم ومقابل الخدمات المفروضة على المستثمر فى مختلف مراحل المشروع، ويُجرى حاليًا تحليل وتصنيف هذه البنود لإعادة هيكلتها في منظومة موحدة لحين التكامل مع منصة الكيانات الاقتصادية.

وإذا كان المستثمر الراغب في إنشاء مصنع للملابس الجاهزة يتعامل حاليًا مع 11 جهة حكومية طالبًا 24 خدمة، فإن المستهدف تحقيقه بعد التطور الجديد أن يتعامل مع جهة واحدة هي المنصة، ويقوم بطلب 6 خدمات فقط بإجمالى 9 خطوات، ويصبح المصنع قائمًا.

جاهزية الأعمال

وينتقل الوزير إلى واحد من الملفات المهمة وهو تقرير جاهزية الأعمال، حيث أعدت الوزارة تقريرًا وافيًا بالتعاون مع الجهات المختلفة للوصول إلى آفاق جديدة بعد تحليل إعداد الإصلاحات بكل موضوع وتصنيفها ركائز ثلاثة هي: الإطار التشريعي، وجودة الخدمات الرقمية، وشفافية البيانات، وإصلاحات الكفاءة التشغيلية، ووفقًا لأطر زمنية تمتد من 6 أشهر إلى 9 أشهر.

ينظر البعض إلى الواردات باعتبارها مشكلة، بينما أرى أن المعضلة في الصادرات.. هكذا قال الوزير عند استعراض ما قامت به الوزارة في ملف التجارة الخارجية، حيث استعرض الخطيب الميزان التجارى وتطوره بدءًا من 2004 وصولًا إلى اليوم.

قال الوزير في عرضه: رغم أن لدينا تحسنًا نسبيًا لا يزال العجز التجارى يمثل عبئًا كبيرًا، غير أن الاتجاه الإيجابي للصادرات المصرية منذ العام 2020 م يمكن البناء عليه لتحقيق توازن مستدام، واستعرض التحسن الملحوظ في الأداء التجارى من جانب الصادرات المصرية خلال النصف الأول من أعوام 2021 و2022 و2023 و2024 و2025، بمعدل نمو بلغ 56٪ بزيادة حوالي 9 مليارات دولار، وأكد أن استمرار هذا الاتجاه يعزز من فرص تقليص العجز التجاري مستقبلًا.

وأشار الوزير إلى أن هيكل الواردات يعكس توجهًا إنتاجيًا داعمًا للمنافسة، حيث إن 93٪ من الهيكل مستلزمات إنتاج وسلع استراتيجية. وقال: إن إعفاء هذه المدخلات من الجمارك يخفض تكلفة الإنتاج ويدعم القدرة التنافسية للمنتج المصري في الأسواق العالمية، والسؤال: ماذا فعلت وزارة الاستثمار في هذا الملف؟

تصنيف مصر

يجيب حسن الخطيب وزير الاستثمار والتجارة الخارجية من خلال استعراض ما يخطط له بقوله: نهدف إلى رفع تصنيف مصر في مؤشرات التجارة العالمية لتكون ضمن أفضل 50 دولة عالميًا، لأن وضعنا الآن غير مرضٍ، ولابد من وصول زمن الإفراج الجمركى إلى يومين بدلًا مما كان عليه وهو 14 يومًا.

ويفجر الوزير مفاجأة بقوله: في يونيو من عام 2024م كان متوسط زمن الإفراج في مصر 14 يومًا، فقررنا التمرد على هذا الوضع. قمنا بالعمل لساعات أطول – 3 ساعات زيادة يوميًا – وألغينا الإجازات المتعارف عليها، وأضفنا 77,500 إجراء خلال 39 يوم إجازة.

وصل متوسط زمن الإفراج 5,8 يوم بعد هذه الإجراءات، والمخطط له الوصول إلى متوسط يومين فقط مع نهاية هذا العام، بعد تخفيض عدد الإجراءات من 29 إجراء إلى عدد محدود جدًا، وهو أمر أمكن تنفيذه بالتعاون مع كافة الجهات والوزارات، وهو ما وفر على البلاد 1,2 مليار دولار تكلفة عدم كفاءة!!

يضرب وزير الاستثمار والتجارة الخارجية مثلًا حول التحديات الإجرائية والجمركية التي كانت تواجه الشركات العالمية الكبرى العاملة فى مجال الملابس الجاهزة. عندما سأل أحد مسئولي هذه الشركات عن سبب تصنيع 17 مليون قطعة في مصر بينما ينتجون في دولة عربية أخرى 200 مليون قطعة، كانت إجابة المسئول صادمة.

أحد وزراء التجارة في بلادنا قرر يومًا ما اشتراطًا إجرائيًا معقدًا عندما فرض على المصنع أن يكتب على كل قطعة ملابس اسم المستورد وتسجيل بلد المنشأ، ولك أن تتصور وضع هذا الملصق على كل قطعة من 17 مليون قطعة! أضف إلى ذلك أن الشركات تشكو من تأخر ما يسمى بنموذج 4!!.

لم يقف حسن الخطيب وفريق عمله مكتوفي الأيدي أمام هذه التعقيدات، وواجهوها وألغوا ما يمكن إلغاؤه بالحوار مع الجهات المختلفة التى تتقاطع مع عمل هذه الشركات، وهو ما دفعها إلى إعلان رغبتها فى التوسع بالأسواق المصرية لزيادة إنتاجها وتصديره.

أنين المصدرين

لم تسكت أصوات المصدرين أنينًا لسنوات بسبب ما يعتري ملف دعم الصادرات من عوار وضبابية، وهو الملف الذي طرق أبوابه الوزير حسن الخطيب ليواجه تحديات ترتبط بانخفاض المخصصات المالية التي لم تتجاوز حدود الـ 23 مليار، وهو مبلغ قفز به الوزير إلى 45 مليارا، أي ضاعفه دعمًا للتنافسية وفق استراتيجية متكاملة.

لاحظ الوزير الشكوى المتكررة من انخفاض مرونة برنامج رد الأعباء التصديرية وعدم تكيفه مع خصوصية كل قطاع تصديري، فوضع برنامجًا ذكيًا ومرنًا يستوعب احتياجات مختلف القطاعات التصديرية، ووضع آلية واضحة ومحددة لصرف المتأخرات مع وضع معايير أكثر وضوحًا للحصول على المستحقات وسرعة الصرف.

وعن وثيقة السياسة التجارية وضع الوزير عنوانًا عريضًا هو: ربط الاستثمار بالتجارة، ليعد مدخلًا رئيسيًا لمعالجة عجز الميزان التجارى من خلال توجيه الاقتصاد نحو التصدير وتعزيز القاعدة الإنتاجية وزيادة القيمة المضافة للمنتجات المحلية.

واعتمد الوزير عددًا من الأدوات لتنفيذ ذلك من خلال تعظيم الاستفادة من الاتفاقيات التجارية لفتح الأسواق وتأمين سلاسل الإمداد بأسعار وشروط تفضيلية، وجذب وتوجيه الاستثمارات نحو أنشطة صناعية تصديرية ذات قيمة مضافة، مع تعزيز آليات المعالجات التجارية لمواجهة الإغراق وتفعيل خطط تصديرية موجهة مثل خطة التحرك نحو إفريقيا.

خطط استثمارية واسعة

في ملف المستهدفات القطاعية قطعت وزارة الاستثمار والتجارة الخارجية شوطًا لا بأس به سعيًا للوصول إلى خطط استثمارية فى قطاعات الطاقة والصناعة والصحة والسياحة والتكنولوجيا والزراعة، وذلك من خلال وضع خريطة استثمارية جاهزة وتوفير فرص مكتملة التراخيص مع حملة ترويجية متكاملة لهذه الفرص، وذلك كله خلال ثلاثة أشهر.

وعن دور الدولة في الاقتصاد تناول الوزير دور الصندوق السيادي الذي يهدف إلى تعظيم العائد للأجيال القادمة، وإدارة المحفظة الاستثمارية للدولة، ودعم عجز الموازنة، وتوسيع قاعدة الملكية، ودمج الكيانات الاقتصادية.

وتحدث الوزير عن اختصاصات وحدة الشركات المملوكة للدولة ودورها فى إعداد قاعدة بيانات للشركات وتحليل الجدوى الاقتصادية لاستمرار ملكية الدولة بكل شركة، وتصنيف هذه الشركات للتخارج أو التطوير وتعظيم عوائدها كل حسب ظروفه بعد تقييم أداء تلك الشركات وفقًا لمؤشرات الأداء.