ولد الهدى (الحلقة الرابعة عشرة)، حتى الخصوم شهدوا أنه الأمين
في شهر ربيع الأول، أشرقت الدنيا بنور النبوة، ووُلد خير من وطِئ الثرى، سيدنا محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ذلك الميلاد الذي لم يكن حدثًا عابرًا، بل كان بداية لفجر جديد أضاء ظلمات الجاهلية، وأعاد للإنسانية رشدها، وأرشدها إلى صراط الله المستقيم.
في هذه السلسلة المباركة، نتفيأ ظلال السيرة العطرة، ونستعرض بعضًا من مناقب الحبيب المصطفى، وصفاته الخُلُقية والخَلقية، وشمائله التي مدحها رب العالمين، وأثنى عليها السابقون واللاحقون من أهل الإيمان.
أمانة سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم
عُرِفَ سيدُنا محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، قبل البعثة بأنه الأمين، وكان الناس يختارونه لحفظ ودائعهم، فيضعونها عنده.
وفي قصة الهجرة مثل واضح، وبرهان ساطع على أمانته، صلى الله عليه وآله وسلم، فكان القرشيون قد استودعوه أماناتهم، فكان، رغم أن الخطر يتهدده من كل جانب، شديد الحرص على ردها، وأوصى علي بن أبي طالب، بردها إلى أصحابها.
كما حدث أن بعث عليٌّ بن أبي طالب، كرم الله وحهه، إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، من اليمن بذهيبة في أديم مقروظ فقسمها بين أربعة نفر: بين عيينة بن بدر، وأقرع بن حابس، وزيد الخيل، الرابع: إما علقمة، وإما عامر بن الطفيل.
فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء. فبلغ ذلك النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماءِ صباحًا ومساءً".
وصف السيدة خديجة للنبي
وصفت أم المؤمنين خديجة، رضي الله عنها، النبي، صلى الله عليه وسلم، بعدة صفات، وذلك عندما رجع إليها بعد نزول الوحي عليه.
روى الحافظ ابن حجر: "وصفته بأصول مكارم الأخلاق؛ لأن الإحسان إما إلى الأقارب أو إلى الأجانب وإما بالبدن، أو بالمال، إما على من يستقل بأمره أو من لا يستقل، وذلك كله مجموع فيما وصفته به".
وعن عائشة، رضي الله عنها: "أن النبي، صلى الله عليه وسلم، رجع عندما نزل عليه الوحي يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد، رضي الله عنها، فقال: زملوني زملوني، حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: "لقد خشيت على نفسي"، فقالت خديجة: "كلا والله! ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل (الضعيف)، وتكسب المعدوم، وتقري (تكرم) الضيف، وتعين على نوائب (نوازل) الحق".
ولما كان الحق ما شهدت به الأعداء، فإن شهادة كفار قريش بصدقه، وأمانته، وغير ذلك، وغيرهم من بقية الكفار والمستشرقين، لتقدم الإثبات على ما تفرد به، رسولنا الكريم، صلى الله عليه وآله وسلم، من أمانة وصدق، وكرم أخلاق.
شهادة كفار قريش
شهد كفار قريش للنبي بالأمانة والصدق، ومثال ذلك عندما اختلفوا عند بناء الكعبة، فيمن يضع الحجر، حكّموا أول داخل عليهم فإذا بسيدنا محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، داخل، وذلك قبل نبوته، فقالوا: هذا محمد الأمين.. قد رضينا به.
وورد أن أبا جهل قال للنبي، صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك وما أنت فينا بمكذب، ولكن نكذب بما جئت به!.
ورُوي أن الأخنس بن شريق لقي أبا جهل يوم بدر، فقال له: يا أبا الحكم ليس هنا غيري وغيرك يسمع كلامنا، تخبرني عن محمد: صادقٌ أم كاذب، فقال أبو جهل: والله إن محمدًا لصادق، وما كذب محمد قط.
وسأل هرقل عنه، صلى الله عليه وسلم، أبا سفيان فقال: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟. قال: لا.
وقال النضر بن الحارث لقريش: قد كان محمد فيكم غلامًا حدثًا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثًا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم به قلتم ساحر؟!! لا والله ما هو بساحر!.
شهادات المستشرقين
ذكر جرجس سال في كتابه "مقالة في الإسلام": "إن محمدًا رسول الإسلام كان صالح الأخلاق، ولم يكن على الشر والخبث كما يصفه به خصومه".
وأشار السير وليام ميوير في كتابه "حياة محمد": "ومن صفات محمد، صلى الله عليه وسلم، الجديرة بالتنويه والإجلال، الرقة والاحترام اللتين كان يعامل بهما أتباعه حتى أقلهم شأنًا، فالتواضع، والرأفة، والإنسانية، وإنكار الذات، والسماحة، والإخاء تغلغلت في نفسه، فوثقت به محبة كل من حوله".
وقال بروفسور "كارادي فو" في كتابه "المحمدية": "إن محمدًا أتم طفولته في الهدوء، ولما بلغ سن الشباب اشتُهر باسم الشاب الذكي الوديع المحمود، وقد عاش هادئًا في سلام حتى بلغ الأربعين من عمره، وكان بشوشًا نقيًا لطيف المعاشرة"، وأضاف: "إن محمدًا كان هو النبي الملهم والمؤسس، ولم يستطع أحد أن ينازعه المكانة العليا التي كان عليها، ومع ذلك فإنه لم ينظر إلى نفسه كرجل من عنصر آخر أو طبقة أخرى غير طبقات المسلمين. إن شعور المساواة والإخاء الذي أسسه محمد بين أعضاء الجمعية الإسلامية، كان يطبق تطبيقًا عمليًا حتى على النبي نفسه".
أما "لين بول" فقال: "إن محمدًا رسول الإسلام، عليه الصلاة والسلام، يتصف بكثير من الصفات الحميدة: كاللطف، والشجاعة، ومكارم الأخلاق، حتى أن الإنسان لا يستطيع أن يحكم له دون أن يتأثر بما تتركه هذه الصفات من أثر في نفسه ودون أن يكون هذا الحكم صادرًا عن ميل وعلى هدى، وكيف لا؟ وقد احتمل محمد عداء أهله وعشيرته أعوامًا، فلم يهن له عزم، ولا ضعفت له قوة".
وشهد القس لوزان بعد بيان عن أوصاف محمد، صلى الله عليه وسلم: "محمد، صلى الله عليه وسلم، بلا التباس ولا نكران من النبيين والصديقين، بل إنه نبي عظيم جليل القدر والشأن".