ولد الهدى (الحلقة الحادية عشرة)، فصاحة سيدنا رسول الله "أوتيت جوامع الكلم"
في شهر ربيع الأول، أشرقت الدنيا بنور النبوة، ووُلد خير من وطِئ الثرى، سيدنا محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ذلك الميلاد الذي لم يكن حدثًا عابرًا، بل كان بداية لفجر جديد أضاء ظلمات الجاهلية، وأعاد للإنسانية رشدها، وأرشدها إلى صراط الله المستقيم.
فصاحة سيدنا رسول الله، خير من نطق بالضاد
من أجمل ما سمعتُ عن فصاحة سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أنه خير من نطق بالضاد، كناية عن لغة العرب.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم، عن فصاحته وبلاغته: “أوتيتُ جوامع الكلم”.
وفي ذلك يقول قال القاضي عِياضٌ في وصفِ فصاحتِه صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم: "وأمَّا فصاحةُ اللِّسانِ، وبلاغةُ القولِ، فقد كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من ذلك بالمحَلِّ الأفضَلِ، والموضِعِ الذي لا يُجهَلُ، سلاسةَ طَبعٍ، وبراعةَ مَنزِعٍ، وإيجازَ مَقطَعٍ، ونصاعةَ لَفظٍ، وجزالةَ قَولٍ، وصِحَّةَ مَعانٍ، وقِلَّةَ تكلُّفٍ".
وعبر السُّيوطيُّ قائلا: "أفصَحُ الخَلقِ على الإطلاقِ سَيِّدُنا ومولانا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ حبيبُ رَبِّ العالَمينَ جَلَّ وعلا".
الجاحِظ يصِفُ كلام رسولِ الله
فيمما يرى الجاحِظُ وهو يَصِفُ كلامَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "هو الكلامُ الذي قَلَّ عدَدُ حروفِه، وكَثُر عَدَدُ معانيه، وجَلَّ عن الصَّنعةِ، ونُزِّه عن التَّكلُّفِ، وكان كما قال اللهُ تبارك وتعالى: قُلْ يا محمَّدُ:... وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (ص: 86)، فكيف وقد عاب التَّشديقَ، وجانَبَ أصحابَ التَّقعيبِ، واستعمَلَ المبسوطَ في موضعِ البَسطِ، والمقصورَ في موضِعِ القصرِ، وهَجَر الغريبَ الوَحشيَّ، ورَغِبَ عن الهجينِ السُّوقيِّ، فلم ينطِقْ إلَّا عن ميراثِ حِكمةٍ، ولم يتكَلَّمْ إلَّا بكلامٍ قد حُفَّ بالعصمةِ، وشِيدَ بالتَّأييدِ، ويَسُر بالتَّوفيقِ، وهو الكلامُ الذي ألقى اللهُ عليه المحبَّةَ، وغشَّاه بالقَبولِ، وجمع له بَيْنَ المهابةِ والحلاوةِ، وبَينَ حُسنِ الإفهامِ، وقِلَّةِ عَدَدِ الكلامِ، مع استغنائِه عن إعادتِه، وقِلَّةِ حاجةِ السَّامِعِ إلى معاودتِه، لم تسقُطْ له كَلِمةٌ، ولا زَلَّت به قَدَمٌ، ولا بارت له حُجَّةٌ، ولم يَقُمْ له خَصمٌ، ولا أفحَمَه خَطيبٌ، بل يَبُذُّ الخُطَبَ الطِّوالَ بالكلامِ القِصارِ، ولا يلتَمِسُ إسكاتَ الخَصمِ إلَّا بما يَعرِفُه الخَصمُ، ولا يحتَجُّ إلَّا بالصِّدقِ، ولا يطلُبُ الفَلْجَ إلَّا بالحَقِّ، ولا يستعينُ بالخِلابةِ، ولا يَستعمِلُ الموارَبةَ، ولا يَهمِزُ ولا يَلمِزُ، ولا يُبطِئُ ولا يَعجَلُ، ولا يُسهِبُ ولا يَحصَرُ، ثمَّ لم يَسمَعِ النَّاسُ بكلامٍ قَطُّ أعَمَّ نفعًا، ولا أقصَدَ لفظًا، ولا أعدَلَ وَزنًا، ولا أجمَلَ مَذهبًا، ولا أكرمَ مَطلبًا، ولا أحسَنَ مَوقِعًا، ولا أسهَلَ مَخرجًا، ولا أفصَحَ معنًى، ولا أبيَنَ في فحوى، من كلامِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كثيرًا".
أما محمَّدُ بنُ سلامٍ فيقول: قال يونُسُ بنُ حَبيبٍ: "ما جاءَنا عن أحَدٍ من روائِعِ الكلامِ ما جاءَنا عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم".
وأضاف الخطَّابيُّ: "... ومن فصاحتِه أنَّه تكلَّم بألفاظٍ اقتضبها، لم تُسمَعْ من العَرَبِ قَبلَه، ولم توجَدْ في متقَدِّمِ كَلامِها، كقولِه:... حَمِي الوطيسُ، ولا يُلدَغُ المُؤمِنُ من جُحرٍ مرَّتينِ".
وصفُ فمِ رسول الله
ورُوِي عن جابِرِ بنِ سَمُرةَ قال: "كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ضليعَ الفَمِ" (أي: عظيمَه، وقيل: واسِعَه، وهو يُحمَدُ عِندَ العَرَبِ، والضَّليعُ في الأصلِ: الذي عَظُمَت أضلاعُه ووفَرَت فاتَّسَع جنباه، ثمَّ استُعمِلَ في موضِعِ العظيمِ وإن لم يكُنْ ثمَّةَ أضلاعٌ، وفيه إيماءٌ إلى قوَّةِ فصاحتِه وسَعةِ بلاغتِه).
ونورد نماذج من فصيحِ كَلامِه الموجَزِ المتعَلِّقِ بالحِكَمِ والآدابِ: "لا تصاحِبْ إلَّا مُؤمِنًا، ولا يأكُلْ طعامَك إلَّا تقيٌّ".
"...... فرُبَّ حامِلِ فِقهٍ إلى من هو أفقَهُ منه، ورُبَّ حامِلِ فِقهٍ ليس بفقيهٍ".. "الحَربُ خَدعةٌ".. "مَن لا يرحَمْ لا يُرحَمْ".. "إنَّما الصَّبرُ عِندَ الصَّدمةِ الأولى".
وفي العصر الحديث، أشار الرَّافِعيُّ إلى هذه السِّمةِ النَّبَويَّةِ البلاغيَّةِ في الكلامِ، فقال: "الكلامُ النَّبويُّ جامِعٌ مجتَمِعٌ، لا يذهبُ في الأعَمِّ الأغلَبِ إلى الإطالةِ، بل كالتِّمثالِ؛ يأتي مقَدَّرًا في مادَّتِه ومعانيه".
أدعية فصيحة
كما نورد بعضا من فصيحِ دُعائِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "اللَّهُمَّ إنِّي أعوذُ بك من الهَمِّ والحَزَنِ، والعَجزِ والكَسَلِ، والجُبنِ والبُخلِ، وضَلَعِ الدَّينِ، وغَلَبةِ الرِّجالِ".
"اللَّهُمَّ إنِّي أعوذُ برِضاك من سَخَطِك، وبمُعافاتِك من عقوبتِك، وأعوذُ بك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيتَ على نَفسِك".
أما عن نماذج قوله صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم تشريعًا: "العَجْماءُ جُبارٌ"، فاختيارُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لفظةَ "العَجْماء" مَظهَرٌ من مظاهِرِ الفَصاحةِ العاليةِ؛ لأنَّ أصلَ الوَضعِ اللُّغَويِّ للأعجَمِ هو الأخرَسُ، والعَجْماءُ والمُستعجَمُ يُقالُ لكُلِّ بهيمةٍ، وإنَّما سُمِّيت عَجماءَ؛ لأنَّها لا تتكَلَّمُ، فاختيارُ اللَّفظِ يوحي بأنَّ الدَّابَّةَ غيرُ ناطقةٌ، فلا تُنذِرُ ولا تحذِّرُ، فلا حُجَّةَ للشَّاكي فيها، وأمَّا لفظُ الجُبارِ فهو الهَدرِ، وكُلُّ ما أُهلِك وأُفسِد فهو جُبارٌ، والجَبْرُ خِلافُ الكَسرِ، ومنه جَبرُ العَظمِ والفقيرِ واليتيمِ؛ فهو بَيْنَ الإبطالِ والتَّرميمِ، وإصابةُ البهيمةِ ممَّا لا يُعتَدُّ به، وكأنَّه مُرمَّمٌ ومجبورٌ، فدعواه باطِلةٌ.
حديث في القتال في سبيل الله
ويروى عن أبي موسى رَضِيَ اللهُ عنه قال: "جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رسولَ اللهِ، ما القتالُ في سبيلِ اللهِ؟ فإنَّ أحَدَنا يقاتِلُ غَضَبًا، ويقاتِلُ حَمِيَّةً، فرفَعَ إليه رأسَه، قال: وما رفَعَ إليه رأسَه إلَّا أنَّه كان قائمًا، فقال: من قاتَلَ لتكونَ كَلِمةُ اللهِ هي العليا فهو في سبيلِ اللهِ عزَّ وجَلَّ".
أوضح العَينيُّ شارحا: "فيه ما أعطِيَ النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من الفَصاحةِ وجوامِعِ الكَلِمِ؛ لأنَّه أجاب السَّائِلَ بجوابٍ جامِعٍ لمعنى سؤالِه لا بلفظِه؛ من أجلِ أنَّ الغَضَبَ والحميَّةَ قد يكونُ للهِ عزَّ وجَلَّ، وقد يكونُ لغَرَضِ الدُّنيا، فأجابه صلى الله عليه وآله وسلم بالمعنى مختَصَرًا؛ إذ لو ذهب يُقَسِّمُ وجوهَ الغَضَبِ لطال ذلك، ولخشي أن يُلبِسَ عليه. وجاء أيضًا في الصَّحيحِ: يقاتِلُ للمَغنَمِ، والرَّجُلُ يُقاتِلُ للذِّكْرِ، والرَّجُلُ يقاتِلُ ليُرى مكانُه، فمَن في سبيلِ اللهِ تعالى؟ فقالصلى الله علييه وآله وسلم: "مَن قاتَلَ لتكونَ كَلِمةُ اللهِ أعلى فهو في سبيلِ اللهِ".