صوت مصر، معرض فني يروي حكاية أم كلثوم من الميلاد إلى مساندة الجيش (فيديو وصور)
بمجرد أن تطأ قدمك مجمع الفنون في قصر عائشة فهمي بالزمالك، تشعر وكأنك انتقلت بآلة زمن إلى منتصف القرن الماضي، حيث بزغ نجم لن يتكرر في سماء الفن المصري والعالمي، "كوكب الشرق" أم كلثوم. فبعد أن افتتحت وزارة الثقافة، ممثلة في قطاع الفنون التشكيلية برئاسة الدكتور وليد قانوش، معرض "صوت مصر"، أصبح القصر وجهة لكل عشاق "الست" الراغبين في التعرف على لمحات من حياتها.

من طفلة الريف إلى سيدة الغناء العربي
لا يكتفي المعرض بتسليط الضوء على المغنية العظيمة التي تربعت على عرش الغناء العربي لعقود بلا منافس، بل يبرز أيضًا الجوانب الأخرى من شخصيتها: الطفلة الشغوفة بالتعلم، السيدة الأنيقة عاشقة الأزياء والموضة، والوطنية التي جابت العالم لجمع التبرعات لدعم جيش بلدها.
يأخذ المعرض الزوار في رحلة تبدأ من ميلاد أم كلثوم، فاطمة إبراهيم السيد البلتاجي، في مطلع القرن العشرين بقرية طماي الزهايرة بمحافظة الدقهلية. ففي هذا الريف الذي يسبح في الخضرة ويصدح بالتواشيح الدينية، ولدت فتاة نحيلة لم يوثق الزمن يوم ميلادها بدقة، حيث اختلف المؤرخون بين عامي 1898 و1904. لكن وثيقة ميلادها تشير إلى أنها ولدت في الرابع من مايو عام 1904.

كان لا بد للحلم أن يغادر عتبة الدار. في أوائل عشرينيات القرن الماضي، وصلت أم كلثوم إلى القاهرة برفقة والدها. كانت تحمل في قلبها شوق الريف وفي صوتها صدى التواشيح التي ترنمت بها بين بيوت الطين. كانت العاصمة بصخبها وأنوارها عالمًا جديدًا لتلك الفتاة الخجولة. استقرت العائلة في القاهرة عام 1923، لتبدأ "الست" رحلة جديدة في عالم الفن.

ويستعرض المعرض بداية أم كلثوم الفنية، ففي عام 1917، وهي في الثالثة عشرة من عمرها، بدأت الغناء كمنشدة دينية مع فرقة والدها. وفي عام 1924، بدأت الغناء الجماهيري في مسرح الأزبكية بالقاهرة. كما يضم المعرض وثيقة نادرة لعقدها مع الإذاعة المصرية، حيث كانت أول فنانة تغني عبر أثيرها في 31 مايو 1934.

ويعرض مجمع الفنون أيضًا نماذج من أبرز أغانيها مكتوبة بخط يد شعراء كبار، مثل أحمد شوقي وأحمد رامي (أغنية "حيرت قلبي معاك") وجورج جرداق وأحمد شفيق كامل وعبد الفتاح مصطفى. كما يضم المعرض مقتنيات فنية أخرى، مثل تذكرة لإحدى حفلاتها بسعر ثلاثة جنيهات ونصف، وملصقات لأسطواناتها مع شركة "كايروفون".
صوت "الست" لدعم الجيش المصري
لم يقتصر دور أم كلثوم على الفن فقط، بل كانت رمزًا وطنيًا لا مثيل له. فبعد حرب يونيو 1967، انطلقت في جولات فنية لدعم المجهود الحربي، فأكتوبر 1967 حفلة في تونس العاصمة جمعت تبرعات كبيرة من الجمهور التونسي والجالية المصرية، ونوفمبر 1967 حفلة في الرباط قدرت عائداتها بحوالي 100 ألف دينار مغربي لدعم المجهود الحربي، ونوفمبر 1967 حفلة في مسرح "الأولمبيا" الشهير بباريس، جمعت ما يقارب 50 ألف فرنك فرنسي، وديسمبر 1967: حفلة في الكويت، كانت من أبرز الحفلات من حيث الحضور والعائد المالي، حيث بلغت التبرعات حوالي 50 ألف دينار كويتي، وفي أواخر ديسمبر 1968 زيارة للسودان، حيث استقبلت بحفاوة بالغة وأحيت حفلين في المسرح القومي بأم درمان خصص ريعهما لدعم القوات المسلحة.

كما زارت في سبتمبر 1970 الاتحاد السوفيتي لإحياء أربع حفلات يعود ريعها لدعم المجهود الحربي وإعادة بناء الجيش، واستكمالًا لدورها القومي العربي، لبّت أم كلثوم دعوة دولة الإمارات عام 1971 لتغني بمناسبة الاحتفال بقيام الاتحاد، مؤكدة أن الفن يتجاوز الترفيه ليصبح رسالة وطنية.

نهاية رحلة الأسطورة
لا يكتفي المعرض بفترات المجد والفرح، بل يختتم رحلته بسرد فترة مرضها الشديد ووفاتها. ففي لحظة رحيلها، ودعت مصر "الست" في مسيرة فريدة من نوعها لن تتكرر مرة أخرى، تاركةً خلفها إرثًا فنيًا ووطنيًا خالدًا.
سيدة الغناء العربي في عيون التشكيليين
ولا يقتصر المعرض على المقتنيات النادرة فقط لكوكب الشرق، أم كلثوم، وإنما كذلك لأعمال تشكيلية أبدعتها أجيال مختلفة من الفنانين احتفاءً بسحر صوتها وحضورها الطاغي.

يتجاوز المعرض فكرة العرض التقليدي ليصبح جسرًا يربط بين الأجيال، فمنهم من عايش أم كلثوم في طفولته وتجمع حول الراديو مع عائلته للاستماع إلى صوتها، ومنهم من عشق أغانيها رغم أنه لم يرها يومًا. كل فنان من هؤلاء تأثرت روحه بأغانيها الخالدة، ليقدم عملًا فنيًا يأسر الزوار لساعات طويلة.

فعبر الفنان ياسر جعصة عن لوحته المائية بقوله إن اختيار هذا الأسلوب كان سهلًا لإظهار عظمة أم كلثوم وشموخها. "ملاحقة جريان الماء على وجه أم كلثوم أشبه بسهولة خروج الصوت الرصين من تلك الحنجرة العظيمة"، هكذا يصف علاقته بلوحته، مضيفًا أن كل ضربة فرشاة تحمل نغمة من نغماتها الخالدة.

وتتسرب الألوان على الورق كما تتسلل الكلمات إلى القلوب في حضورها، حتى الظلال تغني وتتمايل الخطوط على إيقاع التصفيق الحار، بحسب وصفه.

وقدم الفنان أحمد رجب صقر عملًا فنيًا فريدًا من نوعه، نفذه برمال مصرية أو "من تراب مصر مجازًا"، كما يصف. يكشف صقر أن هذا العمل مستوحى من حادثة حريق المجمع العلمي في التحرير، التي استفزته بشدة. "من وقتها اخترت 120 شخصية من الراحلين الذين أصبحوا ثرى هذا الوطن"، يقول صقر، مضيفًا أنهم أثروا مصر في العلم والثقافة والفنون والأدب والدين، بالإضافة إلى أبطال نصر أكتوبر.


وكانت أم كلثوم ضمن هذه القائمة بلا شك، فهي شخصية وطنية عظيمة بجانب إبداعها الغنائي الذي شكّل وجدان المصريين بأعمالها الوطنية والعاطفية والدينية. يؤكد صقر أن عمله يحمل رسالة قوية: يجب الحفاظ على تراب هذا الوطن لأنه يحمل أجساد هؤلاء العظماء الذين أفنوا أعمارهم لرفعته.

ورأي الفنان علاء حجازي أن أم كلثوم "حالة يحياها كل عربي"، يرى بصوتها أحلامه وآماله وعذاباته. ولأن الشعوب العربية يطربها الشجن، كانت "تتسلطن" بالخروج عن اللحن والكلمات دون أن تخرج عن السياق العام للأغنية، لتلقي بالآهات التي تحمل كل منها شجن المستمع وسعادته البالغة، حيث يستمع إلى موسيقى صوتها فقط.

وتصبح هي وحدها بكلمة واحدة، المعبرة بإحساسها الصادق عن مكنون النفس البشرية. "وهذه الآه من المفترض أن ترتفع للأعلى لتتساقط كالمطر على قلوب المستمعين وكان لزامًا علي أن أترك لها مساحة فارغة ليسمعها من يراها"، هكذا يختتم حجازي وصفه لعمله، مؤكدًا على أهمية تلك المساحات الصامتة التي تترك أثرًا عميقًا في نفس المتلقي.