فيتو
رئيس التحرير
عصام كامل

القارئ الشيخ محمود علي البنا.. الناطق باسم السماء.. صوت يألفه الوجدان ويختصر الأزمان.. قال عنه شيخ عموم المقارئ الأسبق عبد الحكيم عبد اللطيف: سيمفونية متفردة في التلاوة

القارئ الشيخ محمود
القارئ الشيخ محمود علي البنا، فيتو

عندما يقرأ خواتيم سورة "النازعات" بدءًا من قوله تعالى: "أأنتم أشد خلقًا"، لا يسعُك إلا أن تقف خاشعًا خاضعًا مُستسلمًا مشدوهًا.

كان  القارئ الشيخ محمود علي البنا –الذي تحل ذكرى ميلاده التاسعة والتسعون اليوم- عندما يعتلي دكة التلاوة، ويبدأ في تجويد مُحكم التنزيل، يُحلق في حالة روحانية استثنائية لا نظير لها.  

لم يكن صاحب الذكرى -الذي كرم برنامج دولة التلاوة اسمه في حلقته الأخيرة- يقرأ القرآن الكريم بلسان سليم وحنجرة متينة فحسب، ولكنه كان يعيش آياتِه بوجدانِ صافٍ وقلب خاشع. كان "البنا" –ولا تزال عيونُ تلاواته شاهدة- يطوفُ بجمهوره ومستمعيه إلى عليين؛ بما آتاه الله من جمال الصوت وصدق الأداء وروعته وقبول رباني غير محدود.

يقرأ البنا –الذي بدأ حياته مُصارعًا- من قوله تعالى: "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين.."، فتصيبك الحيرة، وتستوطنك الدهشة، وتكاد تردد من فرط تأثرك: "سبحان الله ما هذا بشرًا، إن هذا إلا ملك كريم".  

في كل مرة، يخترق صوتُ "البنا" جوانحك مُجودًا أو مُرتلًا آيَّ الذكر الحكيم.. يُشعرك أنه في مهمة مقدسة يؤديها بصدق وصفاء وإخلاص بلا حدود. أمَّا عندما يصحبك في استعراض قصص المرسلين وما عانوه من ابتلاءات في سورة "الأنبياء"، فإنك تشعر كأنك ترى تلك المشاهد المتباينة رأيَ العين. وعندما يُبحر بك في تلاوة سورة "هود"، آيةً بعد آيةٍ، ومشهدًا وراء مشهد، يجتاحك الخوف والورع، وكأنك تعيش حديث الرسول الكريم: "شيَّبتني هودٌ وأخواتُها". وعندما يبدع في تلاوة قوله تعالى: "يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ۚ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ۚ وَعْدًا عَلَيْنَا ۚ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ"، يُشعرك أن كل شيء قد انتهى، وأن أمر الدنيا أصبح ماضيًا، وليس عليك إلا أن تستعد ليوم الحساب.

أسِرَ "البنا" –المولود بإحدى قرى المنوفية العام 1926- قلوب وأسماع الجمهور بما وهبه الله من جمال الصوت والأداء والطلَّة، فأصحاب الأصوات الجميلة كُثر، وأصحاب الأداء الرصين كثر، ولكن "البنا" واحد فقط؛ بدليل أن الذين حاولوا تقليده أو محاكاته لاحقًا توقفوا عند الشكل فقط، دون التوغل في التجليات الربانية التي يصطفي الله بها عباده..ذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

من بين عشرات القراء الذين أسهموا في بناء دولة التلاوة المصرية..يقف صاحب أداء السهل الممتنع بصفاء روحه ونقاء نفسه وموهبته الفطرية التي أصقلها علمًا ودراسة في مكانة استثنائية، صنعها لنفسه، ولا ينافسه فيه أحد.

 شقَّ صوت "البنا" طريقه إلى آذان وقلوب الناس، فيما كان دون العشرين عامًا. عندما قدم من مسقط رأسه إلى القاهرة التقطته أذن واعية، ومهدت له الطريق للالتحاق بالإذاعة المصرية. 

يعُتبر "البنا" من أصغر القراء التحاقًا بالإذاعة، ربما يسبقه في هذا الميدان قارئان آخران بفارق شهور قليلة.

خلودُ صوت "البنا" لم يقتصر على تلاواته المُجوَّدة داخل مصر وخارجها، حيث قرأ في الحرمين الشريفين والمسجد الأقصى والمسجد الأموي وغيرها من بيوت الله العامرة في أرضه، ولكنه كان من الخمسة الكبار الذين سجَّلوا المصحف المرتل، ولا يزال يذاع بانتظام عبر أثر إذاعة القرآن الكريم وعبر الفضائيات القرآنية عبر أنحاء العالم. 

مما ذكره فضيلة شيخ عموم المقارئ المصرية الأسبق  عبد الحكيم عبد اللطيف رحمه الله تعالى عن صاحب الذكرى أنه كان يتجسَّد أخلاق أهل القرآن الكريم في كل شيء. "البنا"..سيمفونية متفردة في تلاوة القرآن الكريم: ترتيلًا وتجويدًا، توافرت لها كل عناصر الإبداع الفطري والجمال الإلهي والكمال الرباني. “البنا”..صوت يألفه الوجدان، يختصر الزمان، يربت على القلوب المتعبة، ويمدها بأكاسير الحياة، تنقضي ثلاثة أرباع الساعة في حضرته كأنها ثلاث دقائق مما تعدون، وأداء رصين متين عظيم، لا تلمس فيه تكلفًا ولا عوجًا ولا أمتًا.. يُشعرك في أي موضع قرأ كأن الله تعالى ألانَ له قرآنه الكريم، كما ألانَ الحديدَ لعبدِه داودَ عليه السلام. 

في حضرة  تلاوات "البنا" -الذي مر على وفاته أربعون عامًا- لا يُجزي وصفٌ، ولا يُغني مدحٌ؛ فلا قرينَ له في استهلال ولا قرار ولا جواب ولا جواب الجواب ولا تمهيد للختام ولا ختام. ولا يُجاريه غيرُه أخذًا بالألباب ولا شحذًا للوجدان، ما عليك إلا أن تستمع لتستمتع، وتُصغي لتُسحَر، وتتأمل لتعيَ وتفهم..جفَّت الأقلامُ وطُويت الصحف.