فنزويلا في مواجهة الهيمنة
لم يكن قسَم نيكولاس مادورو الرئيس الفنزويلي بسيف سيمون بوليفار على استمرار نهجه الثوري ضد الإمبريالية الأمريكية مجرد مصطلح طارئ في حياة الرجل، فقد عاش حياته منذ الصغر على النهج الثوري الذي أسسه زعيمه المفضل الرئيس السابق هوجو تشافيز ضد الغطرسة الأمريكية.
وليس من المدهش أن يكرر الرجل في خطاباته مصطلحات أقرب إلى النهج النقابي اليساري، فقد تربى في تيارات نقابية طوال حياته ومنذ نعومة أظافره، مادورو الذي التحق بنقابة عمال مترو كاراكاس بينما كان عمره خمسة عشر عامًا، عمل بعدها بعامين سائق أتوبيس.
ولم يكن أيضًا مادورو، الذي احتفل بعيد ميلاده الثالث والستين منذ أيام، سائق حافلات عاديًّا، حيث عمل منذ اللحظة الأولى لالتحاقه بهذا العمل على تأسيس رابطة سائقي الحافلات، ولمع نجمه في الوسط السياسي العمالي، حتى لقبه الرئيس تشافيز بأنه ابنه السياسي المفضل.
ومادورو الذي يواجه واحدة من أخطر الحملات الأمريكية ليس وحيدًا في الميدان، فهو بالإضافة إلى تاريخه الحافل في المواجهة مع الغرب وأمريكا، مسنود بمواقف من دول عدة مثل روسيا والصين وإيران وغيرها من الدول التي ترى في الممارسات الأمريكية نوعًا من الهيمنة غير المقبولة.
مادورو الذي تلقى اتصالًا هاتفيًّا من نظيره الأمريكي دونالد ترامب يعلم جيدًا أن واشنطن لا تخطط لخوض حرب ضد تجار المخدرات في فنزويلا، كما يحاول الرئيس الأمريكي تصدير الأمر على هذا النحو، وقد استعد الرجل لما هو متوقع منذ فترة طويلة، بل وطوال تاريخه النضالي.
وإذا كان سيف سيمون بوليفار هو الرمزية الثورية رغم الجدل الذي دار حول أصل السيف وتاريخه، وما إذا كان له علاقة بسيمون بوليفار، فإن العامة في فنزويلا يصدقون الرواية والرمز، وهو ما جعل مادورو يقسم عليه في خطاب شعوبي يفهمه العامة هناك.
معركة فنزويلا وأمريكا هي التعبير الأدق عن ذلك الصراع بين الرأسمالية المتوحشة متمثلة في واشنطن واليسار التقليدي الذي يقوده مادورو في فنزويلا، بل في أمريكا اللاتينية كلها، وتنامي الصراع إلى حد المواجهة العسكرية التي أعلن عنها دونالد ترامب صراحة بقوله إنه يرغب في إنهاء حكم الرجل الصلب.
مادورو كسائق وعامل قديم يحمل بين صفحات تاريخه ملامح ذلك الصراع بين العامل وصاحب رأس المال بملامحه التي تصورها مفاهيم اليسار حول ممارسات القوى الغربية المهيمنة، وهو اختزال لما يمكن أن تؤول إليه الأحداث في الأيام القليلة المقبلة.
ترامب، الذي يمارس نوعًا جديدًا من السياسة الدولية التي تعتمد على الصدمات، كانت قوات بلاده تحاصر فنزويلا في ذات اللحظة التي كان يجري فيها اتصاله بالرئيس الصلب ورمز المقاومة اللاتينية من أجل الحوار..
ولم يكن إغلاق المجال الجوي الفنزويلي تمامًا أمام حركة الطيران المدني سوى إعلان الحصار الكامل لكل ما هو مُنتمٍ إلى اليسار اللاتيني، واختزال للصراع بين نظريتين، وبين عالمين، وبين رجلين ينتمي كل واحد منهما إلى أفق سياسي معادٍ للآخر.
وبينما يراقب العالم كله شرارة حرب لن يكون مجالها حدود فنزويلا فقط، يحتفظ مادورو في منطقتنا العربية بسجل إنساني حافل مع القضايا العربية، كان ولا يزال مادورو رمزًا تاريخيًّا عظيمًا في تاريخ القضية الفلسطينية، قطع علاقاته بإسرائيل، ووصف ما تفعله في الأرض المحتلة بأنه حرب إبادة منذ ظهور إسرائيل في المنطقة.
لم يعترف مادورو بالمجلس الانتقالي الليبي منذ ظهوره بعد سقوط القذافي، ولم يكن موقفه من القضية الفلسطينية باعتباره قائدًا يساريًّا يرى في ممارسات تل أبيب البشعة مبررًا للوقوف ضد تل أبيب، مادورو يرى أن قضية فلسطين قضيته الشخصية.
تهديد الولايات المتحدة الأمريكية بشن حرب شرسة ضد فنزويلا لإسقاط مادورو ليس الحدث الأول في تاريخ أمريكا الذي تضخم بوقائع التدخل ضد دول مستقلة ودعم شخصيات موالية لواشنطن والغرب، وهو سجل حافل بالخسائر الإنسانية بطله الأول والأخير واشنطن.
مادورو أعلن حالة الاستعداد القصوى بين قوات بلاده، وهي قوات بالمقارنة مع جحافل الجيوش الأمريكية الجرارة تعد قوات متواضعة، غير أن شرعيتها أقوى من كل البروباجندا التي يحاول الرئيس الأمريكي تصديرها للعالم في محاولة لإيهام الجميع بأن أمريكا تتدخل للحرب ضد عصابات المخدرات في بلاد مادورو.
المثير أن عاصمة عربية واحدة لم تعلن موقفًا واضحًا وحاسمًا ضد محاولات التدخل الأمريكي في بلد مستقل ذات سيادة يواجه وحيدًا محاولة تدخل سافرة وواضحة ضد القانون الدولي، محاولة تُلغي تمامًا فكرة السيادة وفكرة تفعيل المنظمات الدولية في أي صراع.
ما يجري في الكاريبي الآن جزء أساسي من محاولات إعادة رسم خارطة الصراع العالمي في الزمن القادم، والوقوف مع فنزويلا ضد أمريكا إنما هو موقف ضد سيادة القوة العسكرية في عالم تسوده مفردات الهيمنة والجبروت والظلم، ويرسم ملامح مستقبل أكثر سوادًا وقهرًا.