عباقرة ولكن مجهولون، محطات من حياة "حفصة بنت سيرين" سيدة التابعيات
على مر التاريخ الإسلامي لمعت أسماء عباقرة في مختلف المجالات مثل: ابن الخطاب، والصديق، وعلي بن أبي طالب، وعمر بن عبد العزيز، والبخاري، والشافعي، وابن حنبل، ابن سينا.. ابن رشد.. الكندي.. الفارابي.. الخوارزمي.. الطبري.. أبو حامد الغزالي.. البوصيري.. حتى محمد عبده.. المراغي.. المنفلوطي.. رفاعة الطهطاوي.. طه حسين.. العقاد.. أحمد شوقي.. عبد الحليم محمود.. محمد رفعت.. النقشبندي.. الحصري.. عبد الباسط.. وغيرهم، في العصر الحديث.
لكن هناك أسماء مهمة كان لها بصماتها القوية على العلم والحضارة، ولا يكاد يعرفها أحد.
في هذه الحلقات نتناول سير بعض هؤلاء العباقرة المجهولين.
حفصة بنت سيرين، سيدة التابعيات
هي سيدة التابعيات بلا منازع.. فقد امتازت على نساء عصرها بعبادتها، وتقواها، وشدة حيائها وامتثالها أوامر الله، فكانت لا تزاحم الرجال، ولا تبدي زينتها، وكيف لا وأبوها هو ابن سيرين، وهو من هو، علما وتقوى وفراسة، وزهدا وورعا وتقوى وفقها؟!
كانت ذات همة عالية في طلب العلم حتى بلغت درجة عالية، روت به الكثيرين طلابه.
كانت واحدة من أبرز العالمات الفقيهات في جيل التابعين، وتتلمذ على يديها مشاهير الفقهاء، عاشت وتربت بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وظلت طوال حياتها تخدم الإسلام بعلمها، وكانت امتدادًا لمنهج النبي في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
تاريخها
كان سيرين والد حفصة في جملة الغلمان الذين وقعوا في أسر جيش خالد بن الوليد بعد معركة ذات السلاسل في العراق.
وفي المدينة المنورة اشتراه أنس بن مالك، رضي الله عنه، وتزوج سيرين من صفية مولاة أبي بكر الصديق، وقد تولت تطييب صفية في عرسها ثلاث من زوجات النبي، صلى الله عليه وسلم، وحضر زفافها عدد كبير من الصحابة، فيهم ثمانية عشر بدريًا، منهم أُبي بن كعب، وكان يدعو وهم يؤمنون على دعائه.
اختار ابن سيرين أم حفصة من بيت ورع وصلاح، فكانت أمها صالحة محسنة كريمة طيبة الأعراق، فنزعت البنت إلى أخلاق والديها، وترسخت في قلبها قواعد الفضيلة من حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وحب دينه بفضل تربيتهما، فكانت ذخرًا وعملًا صالحًا لهما دنيا وآخرة. وقد جنيا ما غرست يمينهما، وكذلك كان الهذيل ابن حفصة سليل الطهر والعفاف والتقى. وكان شديد البر بأمه.
قالت حفصة: كنت أجد قرة (البرد الشديد) فكان الهذيل ابنها إذا جاء الشتاء جاء بالكانون (آنية لها حافتان لحجز النار) فيضعه خلفي وأنا في مصلاي، ثم يشعل النار ليدفئني، ويمكث إلى ما شاء الله. وقالت: فلما مات رزقني الله من الصبر ما شاء أن يرزق، وكان سلوك حفصة وانشغالها بربها دافعًا للولد الصالح وعونًا له على طاعتها وبرها وإكرامها وحبه الشديد لها وعنايته بها.
كان مولد حفصة بنت سيرين في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه، سنة 31 هجرية.
وعن أبي العالية قال: كانت حفصة بنت سيرين أكبر ولد سيرين من الرجال والنساء من ولد صفية، وكان ولد صفية محمد ويحيى وحفصة وكريمة وأم سليم وأخاها التابعي الجليل محمد بن سيرين.
مع القرآن الكريم
وكانت حفصة حريصة منذ صغرها على حفظ القرآن، حتى أنها حفظته وهي ابنة اثنتي عشرة سنة، وكانت تقرأ نصف القرآن في ليلة واحدة، وكان أخوها ابن سيرين إذا استشكل عليه شيء من القرآن، قال: اذهبوا، فاسألوا حفصة كيف تقرأ.
ونهلت حفصة من معين علم النبوة منذ طفولتها عن طريق صحابة النبي صلى الله عليه وسلم رجالًا ونساء، حتى أصبحت العالمة التي تعلَّم على يديها الكثير من العلماء ممن يشار إليهم بالبنان، كأيوب السختياني، وقتادة بن دعامة السدوسي، وهشام بن حسان، وخالد الحذاء.
عبادتها
وكانت حفصة تدخل مسجدها تصلي فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، ولا تزال فيه حتى يرتفع النهار، ثم تخرج فيكون ذلك أوان وضوئها ونومها، حتى إذا حضرت الصلاة عادت إلى مسجدها مرة أخرى.
وكانت كثيرة الصيام، طويلة القيام، وتقول خادمتها حينما سُئلت: كيف رأيت مولاتك حفصة؟ قالت الجارية: إنها امرأة صالحة، كأنها أذنبت ذنبًا عظيمًا، فهي تبكي الليل كله وتصلي. وكان ذكر الموت لا يفارقها، فهي تعلم أن الدنيا أيام معدودة، فإذا ذهب يوم فقد ذهب بعضها، لذا كانت تتوقع الموت في كل لحظة، حتى روِي أنها كانت تحتفظ بكفن دائم لها هو جزء من ملابسها، فإذا حجت وأحرمت لبسته، وإذا جاءت الأيام العشرة الأخيرة من رمضان لبسته لتقيم فيه.
بلغت شأنًا عظيمًا في حفظ الحديث الشريف وروايته، حتى أصبحت عند رجال الحديث من الثقات، فروت عن أخيها يحيى وأنس بن مالك، وأم عطية الأنصارية وغيرهم، وروى عنها محمد بن سيرين، وقتادة.
عن الجلباب
وعن عاصم الأحول قال: كنا ندخل على حفصة بنت سيرين وهي عجوز، وقد تنقبت بالجلباب، فنقول لها: رحمك الله، قال الله عز وجل: "والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحًا ليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة" (النور: من الآية 60) فلماذا الجلباب؟ فتقول لنا: أي شيء بعد ذلك؟ فنقول: "وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم"، فتقول: هذا إثبات للجلباب، وبهذا الفهم للقرآن الكريم أرادت حفصة أن تعلم الصالحات من النساء أن التستر أضمن لدين المرأة وكرامتها وعرضها.
وكانت حفصة تقول: يا معشر الشباب خذوا من أنفسكم وأنتم شباب فإني ما رأيت العمل إلا في الشباب.
قالوا عنها
قال إياس بن معاوية: ما أدركت أحدا أفضله عليها - يقصد حفصة-، وقال: قرأت القرآن وهي بنت ثنتي عشرة سنة، وعاشت سبعين سنة، فذكروا له الحسن وابن سيرين فقال: أما أنا فما أفضل عليها أحدًا.
ويقول ابن أبي داود: سيدتا التابعيات حفصة بنت سيرين وعمرة بنت عبد الرحمن وتليهما أم الدرداء.
وقال عنها الذهبي: روت عن أم عطية، وأم الرائح، ومولاها أنس بن مالك، روَى عنها أخوها محمد، وقتادة، وأيوب، وخالد الحذاء، وابن عون، وهشام بن حسان.
وقال مهدي بن ميمون: مكثت حفصة في مصلاها ثلاثين سنة لا تخرج إلا لحاجة أو قائلة (أي لنوم الظهيرة).
وقال عنها يحيى بن معين: ثقة وحجة، وذكرها ابن حبان في الثقات.
وعن هشام بن حسان قال: قد رأيت الحسن وابن سيرين وما رأيت أحدًا أرى أنه أعقل من حفصة.