البابا يوساب الأول، ذكرى رجل الصلاة والعجائب
تحيي الكنيسة القبطية الأرثوذكسية برئاسة قداسة البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، ذكرى نياحة البابا يوساب الأول، البطريرك الثاني والخمسين من باباوات الإسكندرية، أحد أبرز الآباء الذين جمعوا بين التقوى والعلم والرعاية، وتركوا بصمة روحية خالدة في ضمير الكنيسة وتاريخها.
قصة البابا يوساب الأول
وُلد البابا يوساب في مدينة منوف لأسرة عريقة من أعيانها وأغنيائها، لكن قلبه لم يتعلق بالمال ولا بالجاه، إذ نذر حياته منذ شبابه للزهد والخدمة. وبعد أن رحل والداه، وزّع معظم ثروته على المحتاجين، واتجه إلى برية القديس مقاريوس حيث ترهب على يد شيخ قديس، ليبدأ مرحلة جديدة من حياته اتسمت بالتواضع والنسك والصلاة الدائمة.
ذاع صيته بين الرهبان بسرعة، حتى وصلت سيرته إلى البابا مرقس الثاني، البطريرك التاسع والأربعين من باباوات الإسكندرية، الذي استدعاه لما لمس فيه من حكمة وعلم وتقوى، ثم رقّاه إلى رتبة القسيس قبل أن يعود إلى برّيته ليكمل مسيرة الطاعة والخدمة.
لكن مشيئة الله كانت تُعدّه لدور أعظم، فبعد وفاة البابا سيماؤن الثاني، ظل الكرسي المرقسي شاغرًا، ودبت الخلافات بين بعض الأساقفة والعلمانيين حول اختيار البابا الجديد. وبينما سعى البعض لفرض من له المال أو النفوذ، كان آخرون يبحثون عن رجل روح الله تسكن فيه، فاهتدوا بالصلوات إلى الأب يوساب الذي عرفوه بتقواه واستقامته.
ويُروى أن الأساقفة الذين ذهبوا لاستدعائه من برّيته، صلّوا قائلين: “يا رب إن كنت اخترت عبدك هذا، فلتكن العلامة أن نجد بابه مفتوحًا عند وصولنا إليه”، ولما وصلوا وجدوه بالفعل مفتوحًا، وكأن العناية الإلهية كانت تمهد الطريق لتكليفه برسالته الجديدة.
ولما عُرض عليه المنصب، بكى متضرعًا رافضًا المجد الأرضي، لكنه خضع لمشيئة الله وقُدّر له أن يجلس على الكرسي المرقسي، حاملًا مسؤولية جسيمة في زمنٍ عصيبٍ امتلأ بالتحديات والخلافات.
خلال تسع عشرة سنة من خدمته كبابا للإسكندرية، اهتم البابا يوساب بإعمار الكنائس وترميمها، وكان يستخدم من ماله الخاص لشراء أملاك يوقفها عليها لتظل مواردها ثابتة لخدمة المذبح والشعب. لم يكن إداريًا فحسب، بل كان معلمًا ومربيًا، يعلّم الشعب الإيمان المستقيم، ويزور الرعية بنفسه دون كلل، لا يفرق بين كبير وصغير، ولا غني وفقير.
واجه البابا يوساب أيضًا مواقف عصيبة، إذ اصطدم بأسقفين من تنيس ومصر تسببا في اضطراب رعيتَيهما، فحاول نصحهما مرارًا ليتراجعا عن تشددهما، لكنهما رفضا، فلما تماديا في العصيان، جمع البابا أساقفة البلاد وأطلعهم على ما حدث، فقرّروا قطع الأسقفين من الشركة الكنسية.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ سعى الأسقفان المخلوعان إلى الانتقام، فاتهماه ظلمًا أمام والي القاهرة، الذي أرسل جنده لإحضار البابا. وهناك وقعت حادثة أثارت دهشة الجميع، حين حاول أحد الأمراء قتله بالسيف فانكسر النصل على العمود دون أن يمسّ جسده، ثم حاول مرة أخرى بسكين فلم تُحدث الضربة أثرًا إلا في ثيابه. أدرك الوالي أن الرجل محاط بنعمة إلهية، فخافه وأكرمه، وأصدر أمرًا بألا يعترض أحد طريقه في إدارة شؤون الكنيسة.
بهذه المواقف، صار البابا يوساب رمزًا للثبات والصبر، وعلّم أبناء الكنيسة أن القوة لا تأتي من السلطة ولا من الذهب، بل من الإيمان. وظلّ يواصل خدمته مصلّيًا ومعلّمًا وناصحًا، يُفسّر الكتاب المقدس ويوجّه المؤمنين نحو المحبة والاتحاد، ويداوي جراح النفوس قبل الأجساد.
وقد شهد عصره عجائب كثيرة على يديه، إذ استجاب الله لصلواته في مواقف عدة، وأجرى على يديه بركات روحية حفظت الإيمان في زمنٍ كانت العواصف تهدد الكنيسة من الداخل والخارج.
ولما أكمل جهاده الحسن، انتقل البابا يوساب إلى السماء بسلام بعد أن خدم الكنيسة تسع عشرة سنة بطريركًا، وتسعًا وثلاثين سنة راهبًا، وقرابة عشرين عامًا قبلها في طريق الزهد والخدمة. ترك إرثًا خالدًا من التعليم والإصلاح، وسيرة تفيض بالإيمان والعطاء، لتبقى ذكراه مضيئة في تاريخ الكرسي المرقسي، ورمزًا للقيادة الروحية التي تُبنى على الاتضاع والحكمة.