فيتو
رئيس التحرير
عصام كامل

"دلهمو الغرقانة" حكايات إنسانية من قرية منسية تقاوم الاختفاء.. محنة عم محروس الذي ابتلع بيته الفيضان.. ومأساة فادية التي غرقت فرحة ابنتها في الماء.. وأحمد قضى ليلة العمر في مستنقع

صورة منازل قرية دلهمو
صورة منازل قرية دلهمو الغارقة، فيتو

ذات صباحٍ ثقيل، اجتاحت مياه الفيضان قرية دلهمو، الواقعة فى قلب محافظة المنوفية، لتغرق بيوتها، وتزيد صعوبة الحياة، ومشقة السعى من أجل لقمة العيش لدى أهلها، فلم يكن الفيضان مجرد حدث طبيعى عابر، بل مأساة مستمرة، يواجهها السكان كل يوم بين الطين والماء، بين فقدان المأوى ومحدودية الإمكانيات، بين المرض وانتظار المجهول، لكن خلف هذا المشهد العام تتشكل يوميًا حكايات إنسانية تقاوم الغرق، منها ما يكاد يُبكيك من الألم، ومنها ما يُدهشك بصبره وإيمانه… وكانت أولى هذه الحكايات، حكاية محروس عبدالعزيز.

محنة عم محروس

كان الزمن قد دار دورته كاملة على جسد “عم محروس”، حارس الجراج السبعيني، الذى أفنى عمره بين الجبل والأرض ليبنى حجرًا فوق حجر، ويحمى بناته الخمس من الفقر والعوز، لكن النيل، الذى طالما كان له مصدر الحياة، غدر به فى لحظة، وابتلع بيته الصغير فى قرية عزبة التاج القبلية، وتركه واقفًا على ضفة الماء، يودّع عمرًا مضى، وذاكرةً كانت آخر ما تبقى له من الحياة.

لم يحمل معه حين خرج من بيته سوى جسدٍ منهك، وثوبٍ يستره بالكاد، ووجع لا يتركه لحظة. لجأ إلى جراج زراعى يحرسه، طلب من صاحبه مأوى مؤقتًا لزوجته وابنه، بعد أن غرقت الدار التى طالما جمعتهم، لكن حتى هذا المأوى لم يكن مضمونًا، وكأن الرجل صار يستعير الحياة من وقتٍ ليس له.

كل تفصيلة صغيرة فى يومه صارت معركة، ومع هذا ما زال يقف على ضفة الأمل، يروى لنفسه حكاية رجل كان يقهر الصخر، فبات يرتعب من موجة نهر قد تبتلعه نهائيًا.

مأساة فادية

فادية عبد الصبور، سيدة فى أواخر الثلاثينات، مثال آخر لصبر لا يعرف التوقّف، تعمل فى الأراضى الزراعية مع زوجها وابنتها الكبرى، وفى كل يوم تعبر مياه الفيضان التى تطاول رقبتها، عائدة من الحقل، تخلع ملابسها المبتلة عند إحدى جاراتها، وتعود للعمل فى اليوم التالي، وكأن شيئًا لم يكن.

تحاول فادية تأمين أقل القليل لحياة بناتها، حتى تلك التى تستعد للزواج، فكانت تُحضّر لفستان الفرح والتجهيزات، قبل أن تجرفها المياه كلها، وتقول بنبرة حزينة: “بنتى كانت بتحلم، بس الحلم داب فى الميّة”، ورغم ذلك، تواصل عملها بصمتٍ وصلابة، لا تشتكى كثيرًا، لكنها تصرّ على أن يكون الغد أفضل من اليوم، حتى وإن عادَت كل مساء إلى بيت غارق، وذكريات مبتلة.

فرح فى قلب الفيضان

وفى مشهد آخر لا يُنسى، عاد “أحمد”، شاب فى مقتبل العمر، إلى منزله بعد ليلة زفافه، ليجده غارقًا فى الماء. لم يكن أمامه إلا أن يحمل عروسه على كتفه، ويدخل بها إلى بيت لم يعد مأوى، بل مستنقعا.. “كانت ليلة العمر… بس غرقانة”، قالها مبتسمًا بمرارة، لكنه أكد فى الوقت ذاته أنه سيبدأ من جديد، مهما كلّفه الأمر.

خسائر بلا حدود

الفيضان لم يُدمّر فقط الحجر، بل اجتاح تفاصيل الحياة اليومية: أطفال بلا دفء، مسنّون بلا دواء، وأمهات تقاوم بين المرض والجوع، المساعدات الخيرية، رغم وصول بعضها، لم تكفِ، بل تأخرت أحيانًا، وتفاوت توزيعها، مما زاد من شعور بعض السكان بالتهميش والخذلان.

فادية قالت: “المعونات وصلت، لكن مش لكل الناس، وفيه اللى كان محتاجها وما جالوش حاجة… كأن الحزن بيتوزع بعدل، بس العدل مش دايمًا فى المساعدات”.

عطيات جابر: بين جدران متهالكة، وسقف لا يحمي

عطيات، سيدة فى أواسط الخمسينات، كانت تعيش فى بيت من طين، بسيط مثلها، فيه رائحة الأمس وسكون الليل، وفيه أيضًا ضحكات أحفادها الذين يملؤون البيت دفئًا كلما جاءوا لزيارتها، لكن بعد الفيضان، لم يُبقَ من البيت سوى جدران مائلة كقلوب أصحابها، وسقفٍ من الخوص تهدّل حتى صار بلا فائدة.

“أنا كنت نايمة والميّة دخلت عليَّا وأنا فى الفرشة... فوقى السقف بينزل، وتحتى الأرض بتشرب ميّة، وأنا فى النص ما عرفتش أعمل إيه”، تحكى وهى تلتف بشالٍ رماديٍ قديم، تحاول به أن تستر ارتجافة جسدها أكثر مما تستر البرد.

عطيات لم تكن تملك الكثير، ولم تطلب يومًا أكثر مما يكفيها لتعيش. لكن فى لحظة، أخذ منها النيل مأواها الوحيد، ومكانها الآمن، وذكرياتها التى لا تُعوّض.

ابنها الذى يعمل فى إحدى ورش الطوب، لم يكن قادرًا على مساعدتها أكثر من إرسال بعض المال آخر كل أسبوع. لكن المال لم يكن كافيًا لإصلاح بيتٍ غمره الماء، وشقّقته الرطوبة، وسكنته الخيبات.

“كنت حاسة إن كل طوبة فى البيت كانت بتتفرج عليا وأنا بعيَّط… بس ما فيش طوبة واحدة وقفت”، هكذا ختمت عطيات حديثها، وهى تمسح دموعها بطرف كمّها.

عامل اليومية الذى فقد أرضه.. وصوته

خليل حسين، خمسيني، رجل صلب لا يعرف الهزيمة، يعمل بالأجرة اليومية فى الأراضى الزراعية، يرفع “الفأس” كمن يقاتل لأجل وطن، لا لأجل لقمة.

لكنه الآن، بلا فأس، بلا عمل، بلا أرض. المياه دمرت الأرض التى كان يعمل فيها لسنوات، وحوّلتها إلى مستنقع لا يصلح إلا للضياع.

“أنا كنت بشتغل من الضهر للضهر، مش من الصبح للمغرب… كنت بشتغل على عمري، دلوقتى لا شغل، ولا أرض، ولا حتى صوتى طالع”، هكذا يشرح المأساة.

خليل أصيب فى حنجرته قبل عام بمرضٍ جعله يتحدث بصوت خافت جدًا، لا يُسمع إلا حين تقترب منه، ومع الفيضان، أصبح مجرد رجلٍ صامت وسط الضجيج، لا يسمعه أحد، ولا يسأله أحد إن كان جائعًا، أو متألمًا.

كل يوم يذهب إلى أطراف الأرض، يقف على الطين، ينظر إليه، ويحدثه كأنه صديق قديم: “ارجع زى زمان… مش عشان الأكل، عشان كرامتي”.

نعيمة و”الكنبة” الأخيرة

نعيمة، أرملة فى نهاية الأربعينات، تُعرف فى الحارة بـ”أم منّة”. كانت تملك كنبة قديمة، قالت عنها نصف ما تملك، فوقها كان يجلس زوجها، يشرب الشاي، ويقرأ الجريدة، ويشاهد الأخبار، وفوقها جلست ابنتها عندما مرضت، وفوقها نامت هى حين ضاق بها الحزن.

لكن بعد الفيضان، “الكنبة” جرفتها المياه.

“أنا ما زعلتش بس ع الكنبة… أنا زعلت على اللى كان بيحصل عليها… الضحك، الزعل، النوم، السكات… كلها راحت مع الميّة”.

تجلس نعيمة الآن فى غرفة مهدمة، بلا كهرباء، بلا أساس، تستند على جدار نصف مائل، وتقول: “أنا ما بطلبش كنبة تاني، بس نفسى أحس إنى قادرة أقعد… فى أمان”.

الطريق الوحيد

سالم عبدالرحيم، شاب عشريني، لا يملك شهادة جامعية، لكنه يملك شيئًا لم يعد كثيرون يملكونه: قارب خشبي.

منذ غمرت المياه الطرق، صار سالم ينقل الأهالى من ضفة إلى أخرى مقابل مبلغ بسيط، بعضهم لا يدفع أحيانا. لا يسأل كثيرًا، يرى فى العيون ما يكفى من الإجابات.

“أنا عمرى ما كنت عاوز أشتغل فى الميّة… أنا من الناس اللى بتخاف تعوم، بس الميّة جت لحد البيت، اضطريت أطلع فيها”، يقول وهو يُمسك بمجدافه المتهالك.

سالم صار يعرف تفاصيل الحزن أكثر مما يعرف تفاصيل القارب نفسه: امرأة تُخفى معونات فى كيس بلاستيكى وتحضنه كأنه رضيع، عجوز يتوكأ على كتف حفيده خوفًا من الغرق، طفلة تنظر إلى المياه كأنها كائن غريب ابتلع بيتها وتنتظر أن تتقيأه.

“أنا بس بوصل الناس… بس بسمع كل حاجة فى الطريق. الناس بقت بتحكى للقارب، مش للبشر”.

أحزان منى

منى، فتاة فى العاشرة من عمرها، تلميذة متفوقة، كانت تحبّ مدرستها وسبّورة الفصل، وتنتظر كل يوم أن تكتب اسمها فى خانة “الطالبة المثالية”.

لكن بعد الفيضان، منى غابت، لم تعد تذهب.

والسبب؟ ملابسها المدرسية ابتلت فى مياه الفيضان، ولم تعد تصلح للارتداء، وهى لا تملك غيرها.

قالت لأمها: “ما ينفعش أروح بلبس فيه ريحة الميّة”، ثم سكتت. أمها قالت إنها رفضت أيضًا أن تخرج إلى الشارع، أو تلعب مع صديقاتها.

الطفلة التى كانت تكتب بحماس فى كراساتها، أصبحت تكتب بالرمش فى جدار قلبها: “نفسى ألبس هدوم نضيفة… وارجع بنت عاديّة”.

الفيضان ينسحب ببطء… لكن الوجع لا

مع انحسار مياه الفيضان شيئًا فشيئًا، بدأت البيوت تظهر، لكن ليس كما كانت. جدران متشققة، أثاث متعفّن، وروائح لا تنتمى إلا للكوارث.

لكن ما زال الأمل طافيًا فوق السطح. ما زال عم محروس يتسلل إلى ركن فى الجراج يتوضأ فيه ويصلى وهو يتمتم بدعاء: “ردّها يا ربّ علينا، ولو مش البيت، ردّ علينا صحتنا، سترنا، عمرنا، واللى بيحبونا”.

وما زالت فادية تغمس الخبز فى ماء مغلى بالملح، تنظر لابنتها وتقول لها: “إحنا اتبلّينا… بس ما وقعناش”.

وما زالت القرية تنتظر… لا أحد يعرف كم من الوقت يلزم ليجفّ الحزن.

عزيمة لا تُغرقها المياه

وسط هذه القصص، يتكرّر عنصر واحد لا يمكن تجاهله: الأمل، رغم الطوفان، والتشريد، والمرض، يصرّ أهالى دلهمو على الصمود. فى صوت عم محروس المتعب، فى خطوات فادية بين الطين، فى ضحكة أحمد رغم المأساة… نجد أن هذه القرية، المنسية على خريطة المسئولين، ما زالت تحمل قلوبا نابضة بالحياة.