عبد الله النديم خطيب الثورة العرابية.. هز عرش الاحتلال بسلاح الكلمة.. أول من نادى بـ"مصر للمصريين".. ومات في المنفى مرفوع الرأس
في مثل هذا اليوم من عام 1896، رحل عن عالمنا عبدالله النديم، أحد أبرز رموز النضال الوطني في مصر، وخطيب الثورة العرابية الذي دافع عن حرية بلاده بسلاح الكلمة، فكان شاعرًا وأديبًا وصحفيًا وزجالًا لا يخشى بطش الاحتلال، ولا يساوم على مواقفه.
امتلك من الشجاعة ما جعله هدفًا دائمًا لقوات الاحتلال البريطاني، التي لاحقته في كل مكان، لكن كلماته ظلت طليقة، فأسس جريدة "الأستاذ" ليكتب من خلالها مقالاته الجريئة، وكان أول من رفع شعار "مصر للمصريين"، مؤمنًا أن الوطن لا يُمنح وإنما يُنتزع بالحق.
عبد الله النديم لم يكن مجرد خطيب، بل صوتٌ قادر على إشعال حماسة الجماهير، وبثّ روح الوطنية في قلوب البسطاء، فأصبح منبرًا شعبيًا يمشي على قدميه، يملأ الناس ثقة ويقينًا.
ولد النديم عام 1842 في قرية طيبة بمحافظة الشرقية، ونشأ في الإسكندرية، كان والده عاملًا ثم أصبح خبازًا، أما هو فقد بدأ رحلته العلمية في جامع إبراهيم باشا، قبل أن يثور على أساليب التعليم التقليدية ويترك الدراسة، عمل في مكتب التلغراف، لكنه سرعان ما تمرّد على الظلم، فقاد ثورة ضد خليل أغا، أحد رموز الحكم التعسفي في عهد الخديو، ليُفصل من عمله ويبدأ رحلة تشرد طويلة.
ورغم فقره وتشرده، ظل النديم محتفظًا بكبريائه، لا يبيع نفسه لأحد، ولا يقايض فنه أو قلمه، متنقلًا بين الموالد والأسواق، يناطح "الأدباتية" بأزجاله، ويبث في الناس الوعي والكرامة.
من العمل اليدوي إلى الصحافة.. الثورة قدره
جرّب عبد الله النديم أكثر من طريق في الحياة؛ عمل بالتجارة فأفلس، ثم اشتغل مدرسًا، وموظفًا بمكتب التلغراف، وأخيرًا وجد ضالته في الصحافة. وهناك، أطلق طاقته الثورية في الكتابة، ولم يكن قلمه يومًا إلا في خدمة الشعب، حتى جاءت لحظة الحسم مع اندلاع الثورة العرابية، فكان أحد ألسنتها وأقلامها المشتعلة.

عبد الله النديم.. من تلميذ الأفغاني إلى صوت الثورة
تأثر عبد الله النديم بشدة بأفكار الإمام جمال الدين الأفغاني، الذي قدم إلى مصر في عهد الخديو إسماعيل، فجعله قدوته ومعلمه، وانضم إلى ندواته ومناقشاته الفكرية التي تمحورت حول تجديد الخطاب الديني وإصلاح الفكر الإسلامي. سار النديم على درب الأفغاني، وشارك معه في تأسيس حزب الإصلاح، كما ساهم لاحقًا في إنشاء الجمعية الخيرية الإسلامية في الإسكندرية، إلى جانب رياض باشا، رئيس الوزراء آنذاك، الذي تبرع لها بمبلغ سنوي قدره 25 جنيهًا. ولم يتردد النديم في الإشادة برياض باشا، فنظم فيه قصائد المدح لتحفيز الناس على دعم الجمعية، وهو ما حدث بالفعل، حيث زاد عدد أعضائها واتسع نشاطها.
التنكيت والتبكيت.. قلم ساخر في وجه الفساد
في عام 1881، أطلق عبد الله النديم مجلته الشهيرة "التنكيت والتبكيت"، وهي صحيفة أسبوعية تناولت العيوب الاجتماعية بأسلوب ساخر، مقدّمًا من خلالها النقد والنصيحة في قالب فكاهي يجمع بين البساطة والعمق. ولم يكتفِ بذلك، بل أسس أيضًا جريدة "اللطائف"، ردًا على التدخل الأجنبي في شؤون مصر، لتكون منبرًا إعلاميًا للثورة العرابية.
كان النديم يصدر صحيفته من قلب الجبهة، متنقلًا بمطبعته بين المقاتلين، فكان بحق قلم الثورة ولسانها. وبعد ضرب الأسطول البريطاني لمدينة الإسكندرية، انتقل مع الزعيم أحمد عرابي إلى التل الكبير ثم إلى القاهرة، حيث ساهم في إذكاء حماس الجماهير، وكان أحد الأسباب الرئيسية لاحتشاد المصريين في ميدان عابدين، مطالبين بإسقاط الخديو.
الاختفاء في الريف.. ثائر لا يلين
مع دخول القوات البريطانية إلى القاهرة عام 1882 والقبض على عرابي ورفاقه، قرر عبد الله النديم الهروب إلى الأرياف، متنكرًا في زيّ الفلاحين، ومتنقلًا بين قرى مثل بنها وميت الغرقى بمحافظة الغربية. واصل النديم نضاله وسط الناس، محمّلًا الاحتلال البريطاني والخديو توفيق مسؤولية ما آلت إليه البلاد، دافعًا عن عرابي ورفاقه، ومبرئًا إياهم من تهمة الخيانة، مؤكدًا أنهم ضحايا مخلصون لقضية الوطن.

النديم عن عرابي.. في منفاك أعز منك في وطنك
عبّر عبد الله النديم عن تقديره العميق للزعيم أحمد عرابي عقب نفيه، قائلًا:
"زملاؤك قد خسروا كل شيء في الثورة، أما أنت يا عرابي فقد ربحت المجد وكتبت اسمك في صفحات التاريخ. في غربتك أنت أعزّ مما كنت في ديارك، وفي منفاك أكثر هيبة من وجودك بين أهلك."
ثم وجّه اللوم الشديد لأولئك الذين تخلوا عن عرابي، فقال بأسى:
"ما باعوك، بل باعوا الدين والأعراض، وما سلّموك، بل سلّموا البلاد والكرامة. فلا تأسَ على وطن باعه أهله، ولا على شعب أضرّ به جهله."
القبض على النديم بعد تسع سنوات من المطاردة
عقب الاحتلال البريطاني لمصر، صدر حكم بنفي عبد الله النديم غيابيًا، ورُصدت مكافأة قدرها ألف جنيه لمن يدلي بمكانه. ورغم ذلك، ظل متخفيًا لمدة تسع سنوات، متنقلًا بين القرى، متنكّرًا ومتشبثًا بمبادئه، متحصنًا بثقة البسطاء الذين لم يعرفوا هويته الحقيقية.
لكن مصيره تغيّر حين اشتبه به أحد رجال البوليس السري السابقين، حسن الفرارجي، الذي كان قد أحيل إلى المعاش، فأبلغ عنه طمعًا في المكافأة. وبالفعل ألقي القبض عليه، وأُحيل إلى التحقيق أمام النيابة في طنطا، وكان يتولى التحقيق حينها قاسم أمين.
وخلال التحقيق، شدّد النديم على نقطة واحدة ظلّ يكررها: أن جميع من آووه طوال تلك السنوات، لم يكونوا على علم بهويته الحقيقية، حمايةً لهم من بطش السلطة. وبعد التحقيق، أمر الخديو توفيق بنفيه خارج البلاد، فاختار مدينة يافا، حيث حوّل منزله هناك إلى صالون أدبي وثقافي، استقطب المثقفين والمناضلين، واستمر في دوره الفكري رغم الغربة والقيود.
عودة منفى الوطن.. وولادة "مصر للمصريين"
بعد وفاة الخديوي توفيق، أصدر الخديوي عباس حلمي عفوًا عن عبد الله النديم، فعاد إلى مصر عام 1892، بعد غياب دام عشر سنوات في المنفى. لم يهدأ قلمه، بل عاد يشعل جذوة الوطنية مجددًا بكتاباته التي نادت بالوحدة الإسلامية، وكان أول من رفع الشعار الخالد: "مصر للمصريين"، مُعبّرًا به عن روح التحرر والانتماء.
أسس النديم مجلة "الأستاذ" التي حظيت بإقبال واسع من القرّاء، وتحولت لاحقًا إلى جريدة سياسية ذات تأثير كبير. ومن خلال صفحاتها، دعا إلى إنشاء مجمع علمي يُعنى بحماية وتطوير اللغة العربية، فكان أول من طرح تلك الفكرة، التي باتت فيما بعد واقعًا ثقافيًا حيًا.
"مصر للمصريين".. شعار ثورة لا تنطفئ
كان عبد الله النديم بحق رائد شعار "مصر للمصريين"، وغرس مبادئه الثورية في نفوس الجيل التالي، وعلى رأسهم الزعيم مصطفى كامل، حتى بات رمزًا للوعي الوطني في زمن الاحتلال.
ومع تصاعد تأثيره، تحوّلت "الأستاذ" إلى منبر سياسي حر، أثار قلق الاحتلال البريطاني، ما دفع اللورد كرومر لإغلاقها عام 1893. وبعدها، صدر قرار من السلطان العثماني عبد الحميد بنفي النديم إلى القسطنطينية، ومنعه من الكتابة عن الشأن المصري.
وفاة في الغربة.. وقلم لا يموت
أُصيب عبد الله النديم بداء السل، الذي أضعف جسده، لكنه لم يضعف روحه. ورحل عن الدنيا في مثل هذا اليوم، 10 أكتوبر عام 1896، وشيّع جثمانه في جنازة مهيبة تقدّمها أستاذه وصديقه جمال الدين الأفغاني، ودُفن في تركيا.
وفي مرثيته، قال عنه اللورد كرومر:"لم تكن الوطنية عند النديم مجرد شعار، بل كانت نضالًا حقيقيًا وحركة فاعلة على الأرض، وكان دائمًا يحذر من خطر التعصب الديني والعنصري على وحدة الأمة."