فيتو
رئيس التحرير
عصام كامل

أيوا جاي، قهوة سيد درويش تعيد روح الزمن الجميل والزباين بتشرب عالنوتة (فيديو وصور)

مقهى سيد درويش بكوم
مقهى سيد درويش بكوم الدكة

في قلب الإسكندرية القديمة، خلف محطة مصر مباشرة، يختبئ حيّ كوم الدكة كأنه مقطع موسيقي قديم لم يفقد نغمته بعد.

وبين أزقّته الضيقة، تصدح رائحة البن على وقع الحكايات في  قهوة سيد درويش، المكان الذي يُقال إنه كان يجلس فيه الفنان العبقري ليستمع إلى الناس، ويتعلم من أصواتهم قبل أن يصنع موسيقاه الخالدة.

 

القهوة ليست مجرد مقهى صغير على ناصية حارة، بل نافذة على زمنٍ كان فيه الفن يخرج من قلب الشارع، حين كانت الأغنية بنت الحارة، والملحن صدى الناس.

كوم الدكة.. طبقات من الزمن

اسم الحي وحده يحمل قصة  كوم الدكة تعني التلّ الصغير، ويُقال إن التسمية جاءت لأن المنطقة كانت تلة من الأنقاض الرومانية القديمة، ومع مرور الوقت استقرت عليها بيوت المصريين البسطاء.

في القرن التاسع عشر، أصبح الحي مركزًا للفن الشعبي والمقاهي، يقصده البحارة والعمال والفنانون على السواء، وكان أقرب ما يكون إلى الورشة الكبرى التي تُصنع فيها الحكايات قبل أن تُروى.

هنا وُلد سيد درويش عام 1892، في بيت متواضع لا يزال قائمًا حتى اليوم، تحيطه الأزقة التي حملت أصوات الباعة والمارة، وكأنها نوتات موسيقية تعلّق في الهواء.

من هذه البيئة خرج فنان الشعب، ليحوّل أصوات الحارة إلى سيمفونية وطنية خالدة.

 

 

 

 

 

 

القهوة التي أرهقها الزمن

اليوم لم تعد قهوة سيد درويش كما كانت في الذاكرة القديمة. المكان الذي كان يومًا ملتقى الفن والناس، صار يشيخ مثل الحيّ نفسه.

الطلاء متقشّر على الجدران، والمقاعد الخشبية تئنّ تحت ثقل السنوات، ورائحة البن لم تعد تعبق كما كانت.

لكنها رغم الإهمال، ما زالت تنبض بالحياة، كشيخ عجوز يرفض مغادرة المشهد.

يجلس على الطاولات عدد من كبار السن، يتبادلون الأحاديث عن الماضي، بينما تمرّ وجوه الشباب سريعًا دون أن تلتفت.

 


القهوة لم تعد تروق لجيل Z، جيل السرعة والشاشات، الذي لا يجد في المكان إضاءة مناسبة ولا موسيقى عصرية ولا حتى واي فاي.

يقول عم حسن، القهوجي الذي يعمل هنا منذ ثلاثين عامًا، بابتسامة تجمع بين الحنين والاعتزاز:

“لسه الزباين بيشربوا بالأجل زَيّ زمان، وعلى النوتة.. اللي يطلب قهوة أو شاي بنكتب اسمه،  دواير ملوّنة زي النرد عشان نعرف العدد. لما يدفع بنشلها.”

هي طقوس بسيطة، لكنها تحمل روح الزمن الجميل، حين كانت الثقة عملة الناس اليومية، والمقاهي جزءًا من حياة الحارة لا مجرد مكان للجلوس.

ورغم أن المكان يحتاج إلى تجديد واضح في الأثاث والإضاءة وربما في فكرته كلها  فإن روحه القديمة لا تزال قادرة على أسر من يتأملها، كأنها مرآة لزمن لا يريد أن يرحل.

الفن في مواجهة النسيان

كوم الدكة اليوم تغيّر كثيرًا.المباني القديمة بدأت تتناقص، والعمارات الحديثة تزحف ببطء، لكن القهوة ما زالت تقاوم، وكأنها آخر نغمة في أغنية طويلة.

وزارة الثقافة رمّمت منزل سيد درويش قبل سنوات، وأصبح متحفًا صغيرًا، بينما بقيت القهوة  على بُعد خطوات منه  شاهدًا حيًا على الحياة اليومية التي شكّلت وجدانه.

في السنوات الأخيرة، بدأ شباب الإسكندرية يعيدون اكتشاف المكان.

يأتون بالكاميرات، يصوّرون ويكتبون وينشرون قصصًا على السوشيال ميديا عن “قهوة سيد درويش”، ليعيدوا للمكان نبضه الثقافي القديم.

أحيانًا تُقام جلسات موسيقية صغيرة، يجلس فيها عازفو العود والغناء الشعبي، يحيون التراث من قلب الحارة التي أنجبت نغمة مصرية خالصة.

بين الماضي والحاضر

في زمن تتبدل فيه الأحياء وتتغير معالم المدينة، تظل قهوة سيد درويش في كوم الدكة مساحة صغيرة للحنين، ومكانًا يذكّر الإسكندرية بوجهها الإنساني العريق.

فبين فنجان قهوة وصوت أغنية قديمة، يستعيد الزائر لحظة نادرة من صفاء الزمن، حين كان الفنّ يخرج من الشارع، ويعود إليه.

 الحي الذي يغني

كوم الدكة ليست مجرد حيّ شعبي، بل مرآة لروح الإسكندرية، تلك المدينة التي كانت دومًا تغنّي حتى في أوقات الصمت.

وقهوة سيد درويش ليست مجرد مكان أثري، بل ذاكرة حية للفن الشعبي المصري، حيث يجلس الناس اليوم كما جلس بالأمس سيد درويش، يستمعون إلى صوت البحر من بعيد، وإلى أغنية لا تزال تواصل الحكاية.