من القاهرة إلى أسوار القدس، كيف نسج صلاح الدين الأيوبي خطته لتحرير المدينة المقدسة؟
في الثاني من أكتوبر عام 1187 انتهى حصار صلاح الدين الأيوبي للقدس بدخول قواته المدينة، لتعود بعد ثمانية وثمانين عامًا من الحكم الصليبي إلى يد المسلمين، ولم تكن تلك اللحظة وليدة معركة واحدة، بل ثمرة مشروع طويل بدأ منذ أن برز صلاح الدين كقائد شاب في مصر، ثم تحول تدريجيًا إلى رجل دولة يوحد ما تفرق في المشرق الإسلامي.
من هو صلاح الدين الأيوبي وكيف وحد جهود المسلمين؟
ولد صلاح الدين يوسف بن أيوب في تكريت عام 1137، ونشأ في كنف الدولة الزنكية، وتدرج في خدمة نور الدين زنكي حتى أرسل إلى مصر ليكون وزيرًا للخليفة الفاطمي، وهناك بدأ يضع أسس قوته.
أعاد صلاح الدين مصر إلى الولاء للعباسيين، ونظم جيشها وأموالها، وأصبح سيد القرار في أهم دولة إسلامية بعد بغداد ودمشق، وهذه الخطوة كانت نقطة التحول، إذ أتاح له الجمع بين موارد مصر البشرية والمالية وبين الشرعية العباسية والرضا الشعبي.
والخطوة التالية كانت بناء شبكة تحالفات بين مصر والشام، معتمدًا على خطاب الجهاد كقوة معنوية توحد المسلمين، إلى جانب إعادة بناء الجيوش على أسس أكثر تنظيمًا.
وعندما حانت ساعة المواجهة الكبرى في يوليو 1187 عند معركة حطين، كان صلاح الدين قد استكمل أدواته، جيش مدرب، خزينة عامرة، وروح معنوية مشحونة بالهدف، فحاصر جيش الصليبيين في أرض العطش، واستنزفهم حتى انهاروا، ثم أسر ملك القدس وكبار قادته، فانهارت الهيمنة الصليبية في الشام كله.
معركة القدس، مشروع صلاح الدين الأيوبي
بعد حطين صار الطريق مفتوحًا نحو القدس، لكن دخولها لم يكن مجرد نصر عسكري، بل لحظة فارقة في تاريخ العلاقة بين الشرق والغرب، حيث سمح صلاح الدين للمسيحيين بالخروج مقابل وأمن ممتلكاتهم، وفتح الكنائس ليمنح العالم صورة مختلفة عن القائد المسلم، وهذا الفارق لم يمر مرور الكرام في الذاكرة الغربية، حتى إن مؤرخين أوروبيين لاحقين، مثل ول ديورانت، وصفوا صلاح الدين بأنه أعظم من عرفته الحروب الصليبية من فرسان.
وظلت القدس في قبضة الأيوبيين حتى عام 1229 حين أُعيدت جزئيًا عبر مفاوضات مع الإمبراطور فريدريك الثاني، ثم عادت للصراع مرة أخرى، لكنها لم تفقد رمزيتها كمدينة حررها قائد جمع أشتات الأمة ليحقق إنجازًا بدا مستحيلًا.
يمكن القول أن الدروس المستفادة من هذه الذكرى تتجاوز الحكاية العسكرية، فقد علّم صلاح الدين أن بناء القوة يبدأ من إصلاح الداخل، وأن النصر لا يتحقق إلا حين تتوحد الموارد والشرعية والروح المعنوية، كما أن طريقة دخوله القدس تظل شاهدًا على أن الانتصار الأوسع ليس بالضرورة سحق الخصم، بل القدرة على كتابة تاريخ مختلف بعقل الدولة لا بغريزة الانتقام.