من الصعيد إلى العاصمة.. سايسة سيارات تروي قصتها مع أقدم مطاعم القاهرة.. حميدة أحمد: الملك فاروق كان أهم رواد «علي الحاتي».. أعطاني حلويات وهدايا لا تقدر بثمن.. و"وسط البلد" أصبحت قطعة من حياتي
وسط زحمة القاهرة وهدير الكلاكسات في قلب وسط البلد، ستلمح امرأة سبعينية بملامح مصرية أصيلة، تضع على رأسها طرحة بسيطة، وتتحرك بخفة غير متوقعة لعمرها وهي توجه السيارات لصفّها في أحد شوارع العاصمة.
إنها حميدة أحمد السيد محمود، "السايسة" التي يعرفها أهل المنطقة منذ عقود، والتي تحمل في جعبتها حكايات أقدم من الأرصفة التي تقف عليها اليوم.
من صعيد مصر إلى قلب العاصمة
وصلت حميدة إلى القاهرة قبل ستين عامًا. كانت شابة في الثانية والعشرين، تركت بيتها في الصعيد لتلتحق بوالدها الذي سبقها للعمل في وسط البلد.
تقول عن نشأتها: “جييت وأنا صغيرة، وكان أبوي شغال هنا.. ومن ساعتها وأنا في الشارع ده، عايشة فيه أكتر ما عشت في بيتنا الأصلي”، تقولها بابتسامة تختلط فيها الغُربة بالانتماء.
لم تكن تعلم أن حياتها ستتشابك مع ذاكرة وسط البلد، وأنها ستصبح واحدة من شواهد التحولات الكبرى التي مرت بها المنطقة، من مجدها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، إلى ما صارت عليه اليوم.







ورثت "المهنة والمنطقة"
تقول حميدة إنها لم تكن تفكر يومًا أن تصبح "سايسة سيارات"، لكن الظروف فرضت نفسها. بعد وفاة والدها، وجدت نفسها مضطرة لتحمل المسؤولية، فاستمرت في المهنة التي ورثتها مع المكان.
ورغم أن كلمة "سايس" غالبًا ما ترتبط بالرجال، فإن حميدة كسرت القاعدة. صارت واحدة من أشهر الوجوه في شارعها، يعرفها الزبائن، ويأتمنها أصحاب المحلات، ويعتبرها الكثيرون "أمًا" تحرس المكان.
جذور الحكاية تبدأ من مطعم ملكي
لكن قصة حميدة لا تتوقف عند السيارات والشوارع. جذورها تعود إلى مطعم تاريخي شهير كان جزءًا من حكاية عائلتها: مطعم علي حسن الحاتي، أحد أشهر مطاعم القاهرة في النصف الأول من القرن العشرين.
فنقول حميدة: "جدي كان شغال سفرجي في المطعم.. مطعم على حسن الحاتي كان أسطورة. كل المشاهير كانوا بييجوا، والفنانين، والساسة، والملك فاروق نفسه كان زبون دائم"، تقولها بفخر وعيناها تلمعان وهي تستعيد المشهد.
ذكريات مع الملك فاروق
من بين ما تتذكره حميدة، زياراتها للمطعم وهي طفلة صغيرة. لم تكن تدرك وقتها أن الرجل الأنيق الذي يجلس على الطاولة الفاخرة هو الملك فاروق. لكنها تحتفظ بتفاصيل لم تفارق ذاكرتها.
تقول: “أنا شوفت الملك بعيني.. كان بييجي كذا مرة، وكان دايمًا ينده عليا ويديني حلاوة.. أنا طفلة صغيرة وقتها، بس عمري ما نسيت إحساس إني واخدة حاجة من إيد الملك نفسه”.
وتضيف بابتسامة ساخرة: “أجانب كتير كانوا بييجوا كمان، بس الحلاوة اللي من إيد الملك مكنتش زي أي حاجة تانية”.
من مجد إلى إهمال
لكن المطعم الذي كان يومًا ما رمزًا من رموز القاهرة، انتهت به الحال إلى مأساة. بعد سنوات من الازدهار، باعه الورثة لرجل لم يقدر قيمته التاريخية، فحوّله إلى مقهى عادي.
ثم انتقلت ملكيته إلى إحدى شركات الأصول العقارية، التي أهملته تمامًا، وحولته إلى مجرد مخزن لتخزين بقايا إشغالات الشوارع.
اليوم، لم يتبقَّ من أمجاد المطعم إلا صور قديمة على جدران الذاكرة، وصورة الملك فاروق التي كانت معلقة عند بابه.
حميدة.. ذاكرة حية
بالنسبة لحميدة، لم يكن المطعم مجرد مكان عمل للعائلة، بل كان مدخلها لعالم من الحكايات التي ترويها حتى اليوم.
تقول: “أنا جزء من تاريخ المطعم ده.. ومن تاريخ وسط البلد كله. اللي شفته هنا محدش شافه”.
ورغم صعوبة مهنتها الحالية، ورغم أنها تقضي يومها واقفة في الشمس أو المطر لترتيب السيارات، فإنها لا تشكو. ترى في عملها استمرارًا لمسيرة عائلتها في وسط البلد: “اللي يخليني أستحمل إن المكان ده مش مجرد شارع.. ده حياتي كلها”.
ذاكرة وسط البلد التي لا تموت
حكاية حميدة ليست مجرد قصة امرأة تعمل “سايسة”، بل هي شهادة على كيف تتحول الأماكن والوجوه إلى حراس لذاكرة مدينة بأكملها.
وسط ناطحات البنايات والإعلانات المضيئة والكافيهات الحديثة، تقف حميدة كحكاية أصيلة من الماضي، تذكّر الجميع بأن القاهرة لا تنسى، حتى لو نسيها أهلها.
هي ليست فقط “سايسة سيارات”، بل أرشيف حي، شاهدة على زمن الملك فاروق، على أمجاد مطعم علي حسن الحاتي، وعلى التحولات التي جعلت وسط البلد مزيجًا من التاريخ والحداثة.
ربما لم تُكتب قصتها في الكتب، لكن يكفي أن تمر من شارعها، وتسمع منها حكاية، لتدرك أن بعض الذاكرة لا تموت، حتى لو بقيت معلقة على لسان امرأة اسمها حميدة.