بطريرك الإصلاح، سيرة البابا مكاريوس الثالث بين مجد الروح وعاصفة الزمن
تحيي الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، برئاسة قداسة البابا تواضروس الثاني، ذكرى نياحة القديس البابا مكاريوس الثالث، البطريرك رقم 114 في سلسلة آباء الكنيسة المرقسية، والذي تنيح بعد أن خدم الكرسي البطريركي لمدة عام وستة أشهر وتسعة عشر يومًا، تاركًا بصمة واضحة في تاريخ الكنيسة الحديث.
قصة البابا مكاريوس الثالث
وُلد البابا مكاريوس، واسمه الأصلي عبد المسيح، في مدينة المحلة الكبرى في 18 فبراير 1872م. نشأ في أسرة عريقة، وتميز منذ صغره بالورع والزهد، حتى إنه قرر في سن السادسة عشرة أن يترك العالم ليلتحق بدير القديس أنبا بيشوي بوادي النطرون.
في الدير، تفرغ للعبادة، ودراسة الكتاب المقدس والكتب الكنسية، وبرع في نسخ المخطوطات والزخرفة القبطية. سرعان ما ظهرت فضائله وتقواه، مما لفت إليه الأنظار، ليرسمه البابا كيرلس الخامس مطرانًا لأسيوط في 11 يوليو 1897م، وهو في سن الرابعة والعشرين.
في أسيوط، شمر الأنبا مكاريوس عن ساعد الجد، وقاد حركة إصلاحية واسعة. لم يكتفِ بإصلاح الأوضاع الداخلية بالإيبارشية، بل عقد مؤتمرًا قبطيًا عظيمًا عام 1910م، وقدم مع زملائه مذكرة إصلاحية للبابا كيرلس الخامس، مما دل على رؤيته الثاقبة ورغبته في إعلاء شأن الكنيسة.
بعد نياحة البابا يوأنس التاسع عشر، تم اختياره ليتبوأ العرش المرقسي في 13 فبراير 1944م. كانت فترة بطريركيته قصيرة لكنها حافلة بالتحديات، حيث اصطدمت رؤيته الإصلاحية مع المجلس الملي العام، خاصةً فيما يتعلق بإصلاح الأديرة ووضع قوانين الأحوال الشخصية التي رأى أنها تمس جوهر قوانين الكنيسة. لم يتردد في الدفاع عن قناعاته، حتى إنه اضطر إلى هجر مقر الكرسي البطريركي في القاهرة والاعتكاف في الأديرة، مما أحدث ضجة كبيرة في الأوساط القبطية.
وبعد عودته، استمر في جهاده، وعقد المجمع المقدس الذي أصدر قرارات هامة، منها تعزيز العلاقات مع الكنيسة الإثيوبية، ووضع قانون للأحوال الشخصية، وتنظيم شؤون الأديرة.
في 31 أغسطس 1945م، صعدت روحه الطاهرة إلى السماء بعد أن ألم به ضعف شديد، تاركًا خلفه سيرة عطرة، ومثالًا للبطريرك الذي لم يتردد في التضحية من أجل الدفاع عن كيان كنيسته. شُيِّع جثمانه الطاهر في موكب مهيب، ووري الثرى بجانب أجساد البطاركة السابقين، ليبقى اسمه محفورًا في سجلات التاريخ كبطريرك الإصلاح والجهاد.