رئيس التحرير
عصام كامل

حوارات في الفريزر

بعض الحوارات بيني وبينها بدأت ولم تنته، وبعضها انتهى قبل أن يبدأ. وما بين هذا وذاك، هناك حوارات اشتعلت بيننا، فاتفقنا أن نحفظها في الفريزر إلى أن يحين وقت استكمالها، تماما كالطعام المتبقي من وجبة الغداء..

 

أشعر بالحنين لكل ما هو لطيف، ابتسامة أبي وحنان أمي.. رائحة الخبز حين تسخنه جدتي، آخر رشفة تركها لي جدي في فنجانه الأبيض الصغير، القطة الرمادية وهي تطارد الحمائم في فناء بيتنا القديم، قطعة الحلوى التي تهديني إياها البائعة كلما ذهبت لشراء البقالة من دكانها الصغير، الزهور النابتة بين الحشائش في الطريق إلى المدرسة، الشعر الأسود المنسدل على كتفي زميلتي وعينيها المخضبتين بالعسل، المطر الذي يبلل جسدي في طريق العودة للمنزل…

 

الرجل الذي أوقف السيارات حتى نعبر الطريق في سلام، الجرو الصغير حين يسير بمحاذاتي بحثا عن الونس، غناء النساء في فرح جارتنا، زحام ليلة العيد، كتاب بلا غلاف تبدأ فيه الحكاية من المنتصف، صوت الباعة في الصباح، ظل تكعيبة العنب في البيت المقابل، جرس الفسحة معلنا لقاء محمتلا بحبيبة يدق لها قلبا تملكه الشوق، الصهد الصادر عن قطعة حطب تفني نفسها لتدفئة أجسادنا النحيلة في ليلة شتوية، القمر في سماء صافية يسهر معنا حتى الصباح..

 

أحب التجاعيد في وجهك، الخطوط في جبهتك، الندوب، الشعر الأبيض، الجلد الذي لم يعد مشدودا.. هي سطور ملهمة من سيرتك الذاتية، دليل لا يقبل التشكيك في أنك عشت حياة حقيقية، ما بين فرح وحزن، سعادة وألم، انتصارات وانكسارات، دهشة، حب، خسارة ومكسب، كـ إنسان حقيقي، فلا تطمس تاريخك من أجل عمر مزيف.. أحبك كما أنت لأنك أنت..

 

في كل حواراتنا كانت الكلمات تموت فجأة، تداهمنا سكتة كلامية فنسكت.. لم تنتهي أي محادثة بيننا بشكل يشبه تلك النهايات الطبيعية سواء باستئذان للانصراف أو بكلمة وداع تحمل أمل في محادثة قريبة.. وهكذا أيضا تبدأ حواراتنا.. فجأة، نتحدث بدون مقدمات لنعيد حوارا قديما ميتا إلى الحياة مرة أخرى أو لنخلق حوارا جديدا دون مخاض الولادة.. في كل مرة يموت الحوار بيننا هكذا أقسم أنها ستكون الأخيرة وأني سأتجاهل الرد حين تحادثني في المرة التالية، غير أنني لا أصمد للحظة حين أسمع تنبيه ورود رسالة جديدة منها.. فأرد على كلمتها بعبارة وعبارتها بجملة وجملتها بحكاية طويلة..

 

الحب والانتقام

 

 * طريقة تفكير الرجل في الحب تختلف كليا عن طريقة تفكير المرأة، هو دائما يبحث عن أنثى يكون هو الأول في حياتها، بينما هي تبحث عمن تكون هي الأخيرة في حياته، هو يهتم بالماضي، وهي تهتم بالمستقبل، هو لا يحب أن يكون حولها أحد، وهي تفرح إذا اقتنصته من بين المئات، هو يريدها فاكهة طازجة في مقتبل العمر، وهي تحبه كما النبيذ المعتق كلما طال عمره زاد بريقه، هو يراها حصنه الذي يجب أن يدافع عنه، وهي تراه حصنها الذي تحتمي فيه، هو يغار عليها، وهي تغار منهن..

 

هو يحب بعينه، وهي تحب بأذنها، هو لا يغفر الخطأ الأول، وهي تسامح بلا حدود، إذا أحبت غيره تركها إلى غير رجعة، وإذ أحب غيرها تحارب لاستعادته، إن أحب كتم وإن أحبت أذاعت، إن افترقا: هو يبحث في قائمة حبيباته السابقات وهي تبحث في قائمة الانتظار، في الانتقام من الطرف الآخر هو متسرع وهي تخطط على مهل..

 

 * الفتاة القصيرة تشبه القصة القصيرة، قليلة الحجم لكنها مفعمة بالتفاصيل، مشاعرها مكثفة، أنت معها لا تبحث عن المفاجآت، لكنك تستمع بكل لحظة في حضرتها، حتى أنك تعيد قراءتها مرات ومرات دون ملل، ففي كل مرة تكتشف فيها معنى وشيئا جديدا، خفيفة على القلب وهي بصحبتك، وإذا غابت شغلت تفكيرك..

 

 

 * أجمل وأكبر الديون هي تلك التي ندين بها للطيبين الذين منحونا الطمأنينة وقت خوفنا، الذين وصلونا حين قاطعَنا العالم، الذين تبسموا في وجوهنا رغم آلامهم، الذين صدقونا حين كذبنا الجميع، الذين أحبونا رغم عيوبنا، الذين رأوا الجمال داخلنا حين داهمنا الخراب، الذين سمعوا عنا السوء فلم يصدقوه، والذين رأونا نزل فكذبوا أعينهم، الذين دعمونا بكلمة، ابتسامة، وربتوا على أكتافنا بعد الانهزام، ومنحونا عناقا وقت الاحتياج..

الجريدة الرسمية