رئيس التحرير
عصام كامل

طفلة عجوز ورجل بلا وجه

في تلك الليلة كنت ألتقط صورا للعابرين في الميدان الأحمر.. هذه مهنتي وشغفي، التصوير. ألتقط الصور وأبيع بعضا منها للرسامين والصحف، وقلة منها أحتفظ بها ربما لإقامة معرض من عام لآخر، أو ربما أحتفظ بها لنفسي دون سبب واضح، لكن في تلك الليلة لم يكن هناك الكثير من المارة، فقط طفلة صغيرة بضفيرتين تمشي وحدها تحت المطر، فسارعت ألتقط لها الكثير من الصور.

 

في الطريق إلى بيتي، قابلت امرأة عجوز تجلس تحت شجرة أغصانها خالية من الأوراق، أمامها سلة بيض، فتعجبت من وجودها في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل، فاقتربت منها لأسألها إذا كانت تحتاج شيئا أو حتى لأعاونها كي تعود إلى منزلها، لكنها تجاهلت سؤالي، وأعطتني بيضة ثم طلبت مني أن أنصرف حتى لا أتأخر، ولما سألتها عن أي شيء سأتأخر اختفت وكأنها وميض لمع فجأة وانطفأ فجأة!

 

عدت إلى البيت، ودخلت غرفة التحميض، والغريب إنني حين غمست الصور في المحلول، لم أجد تلك الفتاة الصغيرة التي صوبت عدستي ناحيتها، بل كانت المرأة العجوز، حيث كانت هي من يمشي تحت المطر في كل اللقطات التي اختلستها بعدستي.

 

للحظات تسمرت أمام المشهد، فهل أنا أحلم أم أنني تخيلت تلك الفتاة ولم يكن لها وجود من الأساس.. حتى لو كان الأمر كذلك، فالسيدة العجوز كانت تجلس تحت الشجرة ولم أقابلها تمشي تحت المطر في تلك الليلة.. كما أن ثيابها لم تكن مبللة ولا شعرها..

 

قرصني الجوع، فتوقفت عن التفكير في ما حدث، وغمرت البيضة في قدر به ماء وضعته على النار.. مرت دقائق كافية لسلق البيضة، فرفعتها عن النار، وبردتها ببعض الماء، ثم رحت أنزع قشرتها، فوجدت داخلها شيئا يشبه الجنين! رغم النار، كان الجنين حيا.. ينبض.. أخذته ووضعته في خرقة قماش، ورحت أقطر في فمه بعضا من الماء..

 

وتنازلت عن حياتي

 

ظل الحال كما هو، غير أن حجم الجنين كان يزداد شيئا فشيئا، خاصة وأنني استبدلت الماء بالحليب، وبات الجنين يتخذ من كف يدي وسادة.. حيث ينام ويتحرك، إلى أن صارت الحركة لعبا.. مرت أيام أخر، وأصبح الجنين في حجم حبة عنب، وسرعان ما بدأت أطرافه تنبت، وكذا ملامح وجهه كانت تتكون شيئا فشيئا، حتى إتضح أنه ليس فرخا صغيرا، بل إنسان.. وكي أكون دقيقا.. كانت أنثى.

 

في البداية كنت مرتبكا للغاية، فكيف لي أن أربي طفلة في بيتي، وأنا لست متزوجا؟ ماذا أقول للجيران؟ كيف ستقبل الحكومة تسجيلها في دفاترها.. من أبوها ومن أمها؟! تجاوزت كل هذه الأسئلة وأنا أرى الطفلة تكبر أمام عيني، غير أن أكثر ما أدهشني هو أنها باتت تشبه تلك الطفلة التي التقطت لها صورا في تلك الليلة المطيرة..

 

تعلقت بي الطفلة وتعلقت بها، وصارت تناديني أبي، وبالتالي كنت أناديها ابنتي.. لأعوام ظلت الفتاة حبيسة بيتي، إذ لم أكن قد تجبرت حجة أو قصة محبكة يمكن للناس تصديقها، فلو أنني أقسمت وسردت ما حدث، فإن اشد الناس قربا مني لن يصدقونني.. وحدها أمي لو كانت حية لصدقتني.. فكم من مرة كذبني الجميع وصدقتني هي حتى وإن بدت قصتي ملفقة.. فالأم دون غيرها يمكنها أن تكشف صدق ولدها أو كذبه من نظرة عينه..

 

أخذت طفلتي، وانتقلت للعيش في مدينة بعيدة، وهناك أخبرت جيراني الجدد أنها ابنتي، وأن أمها قد ماتت، فتعاطفوا معنا، وراحوا يعتنون بها وبي لأجلها.. في تلك المدينة العجيبة، كان الزمن يسير بسرعة عجيبة، حتى أن طفلتي كانت تكبر في اليوم الواحد بمقدار عام كامل،  لكن في المقابل كان عمري لا يتزحزح قيد أنملة، إذ ثبتت ملامحي وتجمدت خلايا جسدي، فباتت ابنتي تكبر بينما أنا في عمري نفسه لم أكبر يوما واحدا.

 

بعد مرور نحو شهرين، كانت طفلتي قد اصبحت عجوز.. كبرت في السن وشاخت وملئت التجاعيد وجهها.. في هذه اللحظة، تنبهت إلى أن طفلتي باتت مثل المرأة العجوز التي قابلتها في الليلة المطيرة ذاتها! حملت طفلتي اللتي باتت في عمر جدتي، وذهبت إلى طبيب، وحين حكيت له ما جرى، نصحني بأن اذهب إلى طبيب نفسي، لعلي أجد لديه علاجا لحالتي.. وقال لي حاسما: «يبدو أنك مصاب بالخرف».

 

لسنوات ظللت أحمل طفلتي العجوز على ظهري، بحثا عن حل، فتنقلت من طبيب إلى آخر، ومن عراف إلى آخر، إلى أن التقيت رجلا صالحا كان يجلس تحت شجرة، ودون كلمة مني وجدته يعلم تفاصيل حكايتي، وأخبرني بأن هذه الطفلة العجوز ثمرة خطيئة لا يمكن غفرانها إلا إذا تنازلت لها عن حياتي..

 

 

فقلت للرجل إنني مستعد لأن أفعل أي شيء، وحينها طلب من طفلتي العجوز أن تأكل وجهي، كي تحصل على حياتي وتعود إلى عمرها الحقيقي، ففعلت ما طلبه منها.. بعدما أكلت طفلتي العجوز وجهي، عادت طفلة في الخامسة، بينما صرت أنا رجلا بلا وجه، فباتت هي عيني التي أرى بها، أحملها على كتفي متجولا في المدن لأحكي حكايتها التي صارت حكايتي.

الجريدة الرسمية