رئيس التحرير
عصام كامل

غدوة أول كل شهر

اعتاد هاني الموظف الشاب البسيط أن يتغدى أول كل شهر فقط، لأسباب اقتصادية بحتة، في مطعم «كبابجي الأمل»، ففور استلامه المرتب، يقتطع مائتي جنيه حتة واحدة لينفقها على هذه الغدوة المعتبرة، المكونة من طلب كباب وكفتة مشكل، مع الأرز والسلطات، ثم يحبس بزجاجة سفن أب قادرة على تفتتيت الدهون المتراكمة على كبده.

في كل مرة يجلس هاني أمام المحل، إذ يحتل المطعم الرصيف ونصف الشارع، على تربيزة معدنية تلمع كالفضة، حيث الهواء العليل، يتناغم مع رائحة الشواء، التي تجذب كلاب الشوارع.

وهاني رجل في منتصف الثلاثينات، طيب القلب، لكنه لم يكن كذلك، قبل خمس سنوات خلت، وربما أصبح على ما هو عليه حاليا، بحكم السن والتجارب، إذ أنه قد بات متيقنا من أن الدنيا فانية لا تستحق الصراع، ولهذا فإنه يحتفظ بلافتة في غرفة نومه وكذلك في مكتبه تقول: كله رايح.

ومن هذا المنطلق، اعتادت بعض الكلاب الاقتراب منه وهو يأكل، إذ أنه كان يعاملها بإنسانية مفرطة، ترجمها من خلال أصابع الكفتة التي يلقيها لها في كل مرة، خاصة كلبين بنيين يظنهما الناظر إليهما توأمين.. أحدهما يدعى شمشون والثاني ريكس، حسبما أطلق عليهما سكان الشارع الممتد من طرف المدينة الجنوبي حتى قلبها في الشمال.

شمشون وريكس

بيد أن هذه المرة، اقترب منه ريكس فقط، فسأله هاني عن توأمه، لكن صاحب المطعم المعلم فرج عاجله بالإجابة: «قصدك شمشمون.. للأسف خبطته عربية امبارح ومات».

حزن هاني على الكلب، واسترجع شريط ذكرياته معه، فقد كان كلبا لطيفا بل كان ألطف من معظم البشر الذين تعامل معهم هاني في حياته، ليس ابتداء بالواد سيد الغتت رفيق الطفولة، وليس انتهاء بالأستاذ ضمراني العفش مديره في العمل.

كفكف هاني دمعات طفرت من عينيه، قبل أن يأخذ صباعي كفتة من الحجم الكبير، وألقى بهما إلى ريكس الواقف إلى جواره، فاقترب الكلب في هدوء وأخذ يلعب ذيله يمينا ويسارا، ثم راح يشم الطعام بأنفه وفجأة ابتعد مرتعبا والدموع تنهمر من عينيه، ورقد في الأرض يعوي في حزن، في مشهد يصعب على الكافر.

بتلقائية شديدة ودون تفكير، صاح المعلم فرج صاحب المطعم: «سبحان الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.. الكلب عرف أخوه من ريحته ياخواننا».

 

 

هلل المعلم وكبر وكذلك سار على نهجه المارة في الشارع والزبائن والعاملون في المطعم والحطابون في أعالي الجبال، بينما الشاب اللطيف هاني فاغرا فاه محملقا في اللاشيء، وهو يراجع نفسه في عدد الكلاب التي تناول لحمها طيلة السنوات الماضية.

الجريدة الرسمية