رئيس التحرير
عصام كامل

حكايات لا ترويها الجدات

تقول جَدتي إنها رأتني يوم مولدي.. جئتُ إلى الدنيا بلون أصلي - لون التراب - لكنه كان يبهت يومًا بعد آخر كلما تصرفت بمثالية. وتقول: وحدهم البشر لا تبهت ألوانهم ولا تصبح داكنة بشكل مفرط إن هم حافظوا على إنسانيتهم بسياج من الأخطاء والهفوات.

1

غسلتُ الفاكهة ووضعت بعضا منها في طبق قدمته لجدتي، التي كانت تجلس كعادتها على أريكة خشبية في غرفة المعيشة هي كل ما تبقى من بيت العائلة القديم، إذ اصرت على أن تجلبها معها إلى شقتنا الجديدة في التجمع..

كانت جدتي شاردة كعادتها، وهي تتربع على الأريكة التي صنعها المرحوم جدي بنفسه وزخرفها، إذ كان يهوى أعمال النجارة البسيطة..

 

عادت جدتي من شرودها بابتسامة صافية، ثم أخذت ثمرة من التفاح، الذي كان يبرق مثل الشمع، فأخذت تشمها بعمق قبل أن تقضم منها قطعة ازدردتها بعدما أخذت تلوكها في فمها لدقيقة كاملة، ثم أعادت التفاحة مرة أخرى إلى الطبق، فيما انسحبت الابتسامة من على شفتيها..

سألتها ضاحكا: ألا يعجبك التفاح يا حلوة؟

قالت والدموع تقف على أعتاب عينيها وهي تفرك الوشم الأخضر في ذقنها: هذا التفاح يشبه شقتك هذه، شكله حلو لكن لا طعم له ولا رائحة.. بيتنا القديم، الذي بعتوه لمقاول هدمه وبنى مكانه عمارة صماء، كانت له رائحة وطعم تشبه عناقيد العنب في تلك التكعيبة التي كانت بالحديقة الخلفية..

قبل أن تنتهي جدتي من كلامها، أغمضت عينيها ومالت برأسها ناحية اليمين قليلا وهي تبتسم في براءة طفل وتلوك في فمها طعم الماضي وتستنشق عبيرا أقسم أنني  شممته معها من فرط صدقها.

2

بعد سبع سنوات من الغربة عدت إلى بيتنا القديم، لم أسارع باحتضان أمي أو تقبيل يد أبي، لكنني ركضت من مدخل الباب الكبير حتى غرفتي الصغيرة، قطعت عشرين مترًا في طرفة عين، لم انتظر حتى يأتوني بالمفتاح فحطمت حلقة القفل الموصدة بضربة واحدة من قبضة يدي النحاسية..

صندوق الذكريات

 

يدي الأصلية كنت قد تركتها في بيتنا القديم قبل سفري، أما هذه اليد النحاسية فاشتريتها من متجر كبير في بلد نفطية يبيع الأغراض مقابل حبات العرق.. هم هناك لا يحتاجون المال، لكنهم يقايضونك بأن يأخذوا عرقك في مقابل ما تحتاجه أنت من أغراض ونقود..

 

دفعت الباب، دلفت الحجرة، فتحت دولابي المتراقص الذي كان يضحك – كعادته – وأخرجت صندوق ذكرياتي.. صندوق خشبي صغير كانت تحفتظ فيه جدتي بعينها الزجاجية، التي منحتها لها الدولة تعويضا عن موت جدي في حرب اليمن.. ورغم حاجتها لها، إلا أنها لم تستخدمها يوما مفضلة العيش في ظلام، فلا حاجة لها إلى عين لا تبصر بها وجه الجد..

 

بعد وفاة جدتي، دفنا جثتها في مقبرة من ورق أصفر ودفنا معها العين الزجاجية، حسب وصيتها، فقد أرادت تحملها معها إلى العالم الآخر حتى تعطيها لجدي حين تقابله هناك.. كانت دائما تقول: «هو أولى بها.. العين لصاحبها». 

 

ماتت جدتي، وورثت أنا صندوقها.. حولته من حافظة عين زجاجية إلى مخزن ذكريات طفولية.. فتحت الصندوق، وأفرغته تماما، ثم بدأت في إعادة الذكريات إلى جوفه الواسع بشكل منظم، لأنهي فوضى نصف قرن، وكنت كلما وضعت ذكرى دونتها في دفتر صغير بقلم رصاص أكلتُ ممحاته حين كنت تلميذا لا يحسن الإصغاء للمعلم في أثناء الدرس.. فكيف لتلميذ يسْبح في جدائل البنات أن يصغي لكلام المعلم!!

في صندوقي تحولت الذكريات إلى طيور بلا أجنحة، ولها رؤوس آدمية لا تجيد سوى التحديق في الفراغ، وليس عليك إلا أن تفتح فم واحدا منها ليقص عليك حكاية واحدة يحفظها، فمثلا يعني إليك هذا الطائر الأسود، الذي أحتفظ داخله بحكاية العم رجب.. ومن العم رجب؟!

حكاية العم رجب

عرفته باسم الشيخ رجب، كانوا يقولون إن السحر يكمن في كف يده، وأشاعوا عنه في القرية الكثير من الحكايات عن بطولات وكرامات، فهو الذي رد الغنمة الضائعة لصاحبها عم حسين أبو جاب الله، كما رد صفية لزوجها حسن الوحش، وعالج مسعود الحلاق من البرص، وجمع شمل حسنات وكامل، وأعاد فاطمة إلى حضن أمها حين خطفها لصوص المواشي بطريق الخطأ، فضلا عن تمكنه من طرد الجن الذي كان يسكن جثة شحتة أو ربيع..

كنت لأصدق حكاية العم رجب كما يرويها طائري الأسود، لولا أنني في أحد الصباحات رأيت الرجل وهو يتوسل إلى ألله أن يعيد إليه ابنته نرجس التي لملمت «بؤجة» هدومها فجرا وهربت إلى حيث لا يعلم عم رجب أو عفاريته وشياطينه المسخرين..

نرجس لم تأخذ من الفجر سمرته فقط، بل استلت منه سحره وغموضه، الكل كان يحلم بنظرة منها، لكنها أغوت الجميع ثم سقطت في هوى سلامة كحيل العين.. هربت الفتاة ويبدو أنها أخذت في بؤجتها عقل أبيها، الذي ترك بيته وهام في الشوارع يتقاسم الرزق مع الكلاب والقطط..

انتهت حكاية عم رجب وأعدت الطائر إلى موضعه ثم أغلقت صندوقي، ثم غفوت في كف أمي.

الجريدة الرسمية