رئيس التحرير
عصام كامل

سلسلة ما وراء التسريحة (3)

وضعت الدكتور فرغلي مع أوراق بحثه الخاص بتقليص حجم البشر، داخل المظروف وأرسلته بالبريد الدولي المستعجل إلى فنلندا كي يتمكن من حضور المؤتمر العلمي الذي سيقام هناك بعد ستة أيام، وعدت مسرعا إلى المنزل بسرعة فهد يفر من كل أجرب، وكلي أمل في أن أستعيد سلسلة مفاتيحي التي سقطت خلف التسريحة قبل أن تعود زوجتي حسنات إلى المنزل، وكذلك قبل أن يذهب عم رجب إلى المشرحة فيكتشف غيابي عن العمل، بينما الرعب ينهش نافوخي كغراب على رأس ميت، كلما جالت في ذهني فكرة أن ثلاجة الموتى ربما توقفت عن العمل بسبب انقطاع التيار الكهربائي عنها وبالتالي تعفنت الجثث داخلها.


تخيل تتعفن الجثث فتتحول إلى زومبي يطاردني.. «يالهوي»!

داخل حجرة النوم، وقفت إلى جوار التسريحة محاولا استخرج السلسلة من خلفها باستخدام عصا الممسحة، لكنني للمرة الثالثة أحقق العلامة الكاملة في الفشل الذريع، فألقيت بالعصا وجلست على طرف السرير ويدي على خدي كأرملة دايخة على معاش زوجها في المصالح الحكومية، وأخذت أفكر في مصيري، فماذا سيحدث لي أكثر مما حدث! ها أنا رجل ملو هدومي تحولت من مساعد عالم قد الدنيا إلى عامل في مشرحة.. وفاشل.

لم يكن أمامي إلا أن أبتلع نصف زجاجة الفنيك المخزنة أسفل الحوض بالحمام، فالانتحار أهون من المصير الذي ينتظرني، فإذا نجوت من عم رجب والزومبي فكيف لي أن أنجو من زوجتي حسنات، تلك العقربة التي إن رأتها جموع الزومبي حتما ستستعيذ بالله.

سلسلة ما وراء التسريحة (2)

لكن انتظروا.. لقد خطرت على بالي فكرة.. نعم إنه الحل الوحيد.. فتحت اللاب توب، وأخرجت الملف الذي حفظت فيه ذلك البحث الذي أملاه عليّ الدكتور فرغلي والخاص بتصغير حجم البشر، فإذا كان هو قد نجح في تقليص حجمه شخصيا فأصبح في حجم عقلة الإصبع، لماذا لا أفعل أنا ذلك وأتحول إلى عقلة إصبع أخرى، وحينها سيمكنني بكل سهولة أن أدخل تلك المنطقة العجيبة خلف التسريحة لأستعيد سلسلة مفاتيحي، ومن ثم أستعيد حجمي الأصلي عن طريق تناول التركيبة المضادة.

بالفعل حضرت التركيبة المضادة أولا، والتي تتألف من مواد كيميائية بسيطة توجد لدى كل العطارين تقريبا، مضافا عليها بعض الفازلين وال... لا لن أخبركم بباقي المكونات، والآن علي أن أحضر تركيبة تصغير الحجم، لأصبح في مثل عقلة الإصبع.

وضعت المكونات جميعها داخل زجاجة دواء الكحة تماما مثلما فعلت بالتركيبة المضادة، التي حفظتها في الثلاجة بالدرج الأسفل خلف ثمار الطماطم، فالأمر لن يستغرق سوى دقائق، وها أنا أشرب تركيبة تقليص الحجم.

بمجرد أن نزل المزيج داخل بطني، شعرت بحريق يشتعل داخل معدتي، ثم سرعان ما راح ينتشر في كل جسمي، أحسست وكأن دمائي تغلي، بينما نافورة من الجحيم تفور داخل رأسي.

بمرور الوقت بدأت أرى الأشياء تتعملق حولي، ولم أكن أعي أن جسدي هو الذي ينكمش، فرأيت التسريحة تتحول إلى برج ضخم وعال، بينما السرير صار في حجم السفن العملاقة التي كنت أراقبها في طفولتي وهي تعبر قناة السويس، حين كنت أزور عمتي التي تعيش في الإسماعيلية، حتى الوسادة الملقاة على الأرض تخيلتها هضاب مترامية الأطراف كان علي أن أقطعها في وقت يتجاوز العشر دقائق، وكثيرا ما غاصت أقدامي في نسيجها المهترئ، كما أنني تعثرت لأكثر من مرة في الخيوط البارزة على سطحها، إلى أن نجحت في اجتيازها، فشعرت بذلك الشعور الذي خالج عنترة بن شداد حين تمكن من عبور بحر الرمال المتحركة وهو في طريقه لجلب النوق الحمر من أرض النعمان مهرا لعبلة.

بعدما تجاوزت الوسادة، واقتربت من التسريحة، لكن قبل أن أخطو خطوة واحدة، سمعت أصواتا تشبه صوت الطائرة الحربية حين تغير على أعدائها، تلتها أصوات تشبه الصوت الناجم عن انفجار قنبلة نووية.. تلك الأصوات البشعة لم يكن لدي القدرة على تحملها، والغريب أنني اكتشفت بعدها أنها لم تكن سوى صرير باب الشقة، فقد وقع المحظور، إذ عادت حسنات زوجتي من السوق، وها هي تقترب مني حاملة بعض الأكياس في يديها.


سلسلة ما وراء التسريحة (1)

دخلت حسنات غرفة النوم، ودون أن تلحظ وجودي بعدما صرت في حجم عقلة الإصبع، كادت تدهسني بقدميها اللتين تشبهان خف الجمل، فمقاس حذائها يتجاوز الخمسة وأربعين.. ألم أقل لكم أنني أعيش في الجحيم!

أسرعت للهرب من تحت قدمي حسنات التي كانت تهرول في الغرفة وكأنها جاموسة هاربة من الجزار، وأفلت بصعوبة بالغة من بين أصابعها كلما تنقلت من خطوة لأخرى، ثم ألقت هي بالأكياس من يديها على الأرض، وصاحب ذلك عاصفة كادت تودي بي، تبين لي بعد ذلك أنها لم تكن سوى زفرة من حسنات وهي تحادث نفسها متأففة.

- قطيعة ما هذا الحر؟!
قالتها ثم رمت نفسها على الأرض واضعة رأسها على الوسادة لتصل على قسط من الراحة، بينما شاء حظي العثر أن استقر بين نهديها العامرين كتلين متجاورين في صحراء قاحلة.

- ما هذه الورطة يا ربي؟
هكذا قلت في نفسي، وأنا أحاول الفرار من بين نهديها فرائحتهما تشبه الفسيخ المعتق.. ترى هل هذه رائحتها فعلا أم أنني بعدما أصبحت في حجم عقلة الإصبع شديد الحساسية؟! ربما تكون حواسي قد تضخمت على عكس جسمي، فكلما صغرت أجسادنا زادت حدة حواسنا فصرنا نسمع دبة النملة ونشم رائحة البكتيريا.

نجحت في الإفلات من صدر حسنات، قبل أن أختنق، فتنفست الصعداء، وهممت بالولوج خلف التسريحة لأبدأ رحلة البحث عن سلسلة المفاتيح لاستعادتها، غير أنني بمجرد أن رفعت قدمي عن الأرض، هبت عاصفة جديدة مصحوبة بأصوات ضجيج تشبه مرور القطار على القضبان الصدئة، فطرت في الهواء حتى اقتربت من ملامسة ريش مروحة السقف التي كانت حسنات قد أدارتها لتجلب لها بعض الهواء، فشعرت بأن نهايتي قد اقتربت، حيث باتت المقصلة على بعد مليمترات من رقبتي، أغمضت عيني كي لا أراني وأنا أموت، وبينما أنا مستسلم لنهايتي توقفت المروحة عن العمل فقد انقطع التيار الكهربائي وسقطت أنا على «جدور رقبتي» مستقرا في فتحة أنف حسنات، التي استيقظت وأخذت تحرك أنفها ثم عطست فانطلقت أنا كرصاصة تغادر فوهة البندقية ليستقر بي الحال وراء التسريحة!

إنه القدر، لقد وصلت رغما عني إلى المكان الذي فشلت في الوصول إليه بإرادتي، وربما تكون هذه هي الحكمة، فلا أحد منا يدري مصيره، لكن دعونا الآن من حكم وأمثال خالتي، فالوقت قد حان لبداية الرحلة الحقيقية، فهل أنتم مستعدون للمغامرة؟!
الجريدة الرسمية