رئيس التحرير
عصام كامل

محمد السمادوني يكتب: «جريمة القتل الخطأ»

صورة ارشيفية
صورة ارشيفية

كان صديقي، وهو طبيب كبير يعمل بالخارج في إجازة قصيرة، فضل أن يقضيها بين أهله في القاهرة، وذات صباح وهو يستقل سيارة زوجته في شارع صلاح سالم، والطريق خال من المارة، وهو على السرعة المعتادة في مثل هذه الظروف إذا بالسيارة تصطدم بسيدة في نهاية الثلاثينيات من عمرها كانت تعبر الطريق فجأة من غير الأماكن المخصصة للمشاة.


جريمتا القتل والإصابة الخطأ من الجرائم غير العمدية التي يستلزم قيامهما فعل مادي يتمثل في القتل أو الجرح أو الإيذاء، فلقيام جريمة القتل أو الإصابة الخطأ، لا بد من تحقق نتيجة معينة مترتبة على الفعل الخاطئ هي قتل المجني عليه أو جرحه أو إيذائه، فإذا لم يتوافر شئ من ذلك فلا تقوم الجريمة، لأنها من الجرائم غير العمدية التي لايتصور فيها الشروع.

والمراد بالجرح والإيذاء كل إصابة تقع على جسم الإنسان فتمس سلامته، كما يشترط أيضا أن يرتكب الجاني خطأ يأخذ إحدى الصور الآتية: الإهمال أو الرعونة أو عدم التحرز، أو عدم مراعاة القوانين واللوائح.

ويشترط أيضا قيام رابطة السببية بين الخطأ المرتكب والضرر الحادث، فجريمة القتل الخطأ أو الإصابة الخطأ لا تقوم قانونا إلا إذا كان وقوع القتل أو الجرح متصلا بالخطأ الواقع من المتهم اتصال السبب بالمسبب، بحيث لا يتصور حدوث القتل أو الجرح لو لم يقع الخطأ.

ومن المقرر قانونا أن خطأ المجني عليه يقطع رابطة السببية إذا استغرق خطأ الجاني وكان كافيا بذاته لإحداث النتيجة، ومن أمثلة ذلك- كما جاء في أحكام محكمة النقض- عبور المجني عليه الطريق عدوا على مسافة قريبة جدا من السيارات القادمة، أو وجود المجني عليه نائما على القضبان الحديدية أثناء قدوم القطار.

نزل صديقي من سيارته، وحاول إسعاف الضحية باعتباره طبيبا، ثم نقلها إلى أقرب مستشفى، وكانت مستشفى الجلاء العسكري، حيث أودعت العناية المركزة، وأبلغ الشرطة بالحادث وسلم نفسه، وبدأت التحقيقات.

من المقرر قانونا أن السرعة التي تصلح أساسا للمساءلة الجنائية في جريمتي القتل أو الإصابة الخطأ ليست لها حدود ثابتة، وإنما هي- كما تقول محكمة النقض- السرعة التي تجاوز الحد الذي تقتضيه ملابسات الحال وظروف المرور وزمانه ومكانه فيتسبب عن هذا التجاوز الموت أو الجرح، وأن تقدير ما إذا كانت سرعة السيارة في ظروف معينة تعد عنصرا من عناصر الخطأ أو لا تعد هو مما يتعلق بسلطة المحكمة التي تنظر الموضوع، ولا يغير من ذلك أن تكون السرعة داخلة في الحدود المسموح بها طبقا للقرارات واللوائح المنظمة لقواعد المرور.

تواصلت أسرة صديقي الجاني بأسرة المجني عليها، وبعد ساعات من الحادث توفيت المصابة إلى رحمة الله، تاركة ورائها زوج عاجز تقريبا ويسير على عكاز، وأحيانا يعمل على توكتوك ومعظم الأوقات عاطل عن العمل، وثلاثة أطفال في المرحلة الابتدائية، سارع الزوج إلى طلب مبلغ كبير على سبيل التعويض، وادعى أنه وأولاده هم فقط الورثة، وافق صديقي على طلبات الزوج وسلمه المبلغ الذي طلبه، وتعهد الأبناء بالرعاية طول حياته، وبعد ذلك علمنا أن هناك ورثة آخرين، الأب والأم ويطلبان مبلغا آخر، والجميع مستعدون للحضور أمام المحكمة والتنازل والتصالح، فلبى صديقي طلبهم أيضا ودفع ما طلبوه.

تذكرت وأنا أمام القاضي أني أمارس نوعا من التمثيل، ولكن ليس التمثيل الذي يقوم على محاكاة أو المبالغة، أنا أمثل كمفوض في الوصول إلى الحقيقة، إن عملي يتمثل في أن يعرف القاضي حقيقة الموقف، فإذا كان التمثيل على خشبة المسرح يعني المحاكاة والمبالغة لكي نجعل الجمهور يضحك أو يبكي أو يتعاطف مع البطل، فإن تمثيلي أمام القاضي يهدف إلى العثور على الحقيقة، فأنا الممثل المفوض للإمساك بالحقيقة، وهنا نحن نصدق الممثل لأنه يعرض قطعة من روحه ومن قلبه، فالتمثيل هنا وجود فردي وحضور إنساني مجاوز وقادر على أن يقنع القاضي ببراءة صديقي رغم تعاطفي مع الضحية.

إن لحظة الوقوف أمام المنصة تتجاوز مواجهة القاضي وأطراف القضية والجمهور وإلقاء الدفوع والمرافعة وإدارة حركة الجسد، فهناك عالم كبير يدور داخل المحامي الممثل، هناك التساؤل الكبير عن معنى الثبات، كيف أثبت قدماي وأشعر بالرسوخ، كيف أقبض على ثقتي بنفسي وأتسيد الموقف وأقوده لصالح موكلي، كيف أتنفس وينساب صوتي صادقا حرا فيكون صدى للحقيقة.

وبينما أنا أشحذ همتي للمرافعة أمام المنصة، إذا القاضي بعد أن أثبت حضور الأطراف وتنازل أهل المجني عليها ينطق بالحكم في المواجهة حكمت المحكمة بانقضاء الدعوى صلحا.
الجريدة الرسمية