رئيس التحرير
عصام كامل

دعهم يتناثرون بعيدا


في إحدى قصص تشينوا أتشيبى، أديب نيجيريا العظيم ، الحاصل على جائزة نوبل في الآداب عن استحقاق وجدارة، يدخل أحد الدائنين لبطل القصة الكسول الذي يعيش عالة على غيره، والمدين لطوب الأرض، فيطالبه برد جزء، ولو يسيرا، من ديونه الكثيرة المستحقة عليه.. هنا فقط ينشط المدين ويلفت انتباه الدائن إلى لوحة بديعة رسمها على إحدى حوائط كوخه المتواضع..


اللوحة عبارة عن رسم سيريالى مكون من آلاف الخطوط المتشابكة والمتداخلة بشكل يثير الجنون، ثم يقول له: حسنا سيدى الدائن الكريم.. أقر واعترف بأن هذا حقك بلا جدال.. نعم هو حقك، ولكنك كما ترى وتدرك أن كل خط من هؤلاء يمثل أحد الدائنين أيضا، ولكل منهم ديون مستحقة على شخصى الضعيف الأمين، ولا أنُكرها مطلقا.. حسنا، عندما انتهى من سدادها جميعا أولا، سيكون الدور عليك وسأرد لك جميع أموالك!

ينصرف الدائن يائسا منكوبا من هول الصدمة، ويخرس تماما مستعوضا ربه في ماله الذي ضاع للأبد، لكنه مستحق ومعترف به من قبل المدين، ولكن.. ما الفائدة!.. هكذا تتساقط كل طموحاتك وتتناثر بعيدا عندما ترى أن المطالبة بحقك صارت حلما عبثيا.. الرواية تحمل ذات العنوان (عندما تتناثر الأشياء بعيدا).. فقط الأمل حتى ولو كان ضعيفا وخافتا ومنبثقا من مشكاة شحيح ضوؤها قادر على بعث الحياة فيك، وفيمن حولك من جديد، ولكن.. للأسف تتناثر الأشياء متباعدة ومتخاصمة وصماء لا تسمع غير نفسها وهنا الخطر كله.

تذكرت هذه القصة وأنا أرى صراعا وكفاحا بين أكبر حزبين فاعلين وفعليين في مصر، وهما بالقطع، الأهلي والزمالك في صراعهما المرير من أجل الظفر بتوقيع أسطورة زمانه، وفلتة عصره، ومبدع الساحرة المستديرة عبدالله السعيد.. كان الأهلي قد بارك عقد أحمد فتحى زميله الذي وفى وضحى من أجل عيون النادي الأحمر بمبلغ ضئيل.. فقط أربعة عشر مليونا من الجنيهات المصرية، تتناثر بجوارها بعض الملايين الأخرى الوضيعة من حصيلة إعلانات متفق عليها.. الحمد لله، فلقد وفى أحمد فتحى الأصيل وتنازل حتى يرضى باللعب في النادي القاهرى بهذا المبلغ المتواضع، والذي يطمع السعيد في حصول على خمسة أو ستة أضعافه من النادي الأبيض.. وسيحصل منه أو من غيره.. فقط المسألة مسألة وقت سيمر ويحصل السعيد على ما يسعده.

دعك من فتحى والسعيد فتلك أمة لها ما كسبت ولك ما خسرت، وتذكر أنك ربما يكون حالك مثل الدائن أو حتى المدين في قصة تشينوا أتشيبى.. فكلاهما ضائع وبائس ومنهك ومتداخل بشدة مع الخيوط المتشابكة المجنونة المحيطة بهم، أنت قطعا تعيش في غياهب الخطوط المتشابكة العبثية أيضا، دائرة لعينة من الفقر والمرض والحرص على مستقبل أبنائك، والخوف من نظام الثانوية العامة الجديد، سواء كنت طالبا أو ولى أمر لأحد الطلاب..

الهلع من نقص أدوية الضغط والسكر التي تضاعف سعرها ولا تجدها.. الفزع من تصنيفك وفقا لرؤية أحدهم، انتظارك لرفع ما يسمى بالعدم عن مقدرات الحياة، تتابع ارتفاع أسعار كل شىء عدا قيمتك ثم تذهب لتشجع أحد هولاء المليونيرات، تعرض نفسك للخطر من أجل ناد لا تستطيع المرور من بوابته، وإن فعلتها ستُطرد في أحسن الأحوال، هذا إن لم يتم القبض عليك لدخولك بوابة الأثرياء وتجاوزك الخطوط الحمراء أو البيضاء.. ألا تكفيك الخطوط التي تلتف حول عنقك!.. ألا تقنع بما عندك وتترك ما لا ينفعك ولا يضرك.. ألا تكف عن صنع أصناما وعبادتها.. دع الأشياء تتناثر بعيدا عنك على أقل تقدير ولا تتداخل معها!

fotuheng@gmail.com
الجريدة الرسمية