رئيس التحرير
عصام كامل

أطباء نفسيون: الموهبة كائن حي ينمو مع تقدم السن

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

>> طريقة استخدام المبدع لموهبته على مدى سنوات عمره المختلفة هي فقط القادرة على تحديد مدى استمرارها وقدرتها أيضا على التجدد


أغلب الظن عند الكثيرين أن الحياة تتوقف عند الستين، أي عند بلوغ سن المعاش، لكن ثبت أن هذا الظن يدخل ضمن نطاق الخطأ وليس الإثم، وقد جاءت الطمأنة عن طريق خبراء علم النفس بما معناه أن "الإبداع بلا عمر"، لتضخ دماء الإبداع في عروق من وصلوا إلى أرذل العمر، فعلى الرغم من بلوغهم سن اليأس إلا أن من بينهم من يملك القدرة على العطاء، وهؤلاء هم قادة مرحلة الشيخوخة من المبدعين، فهناك عدد كبير من النجوم في مختلف المجالات سواء سياسية أو اقتصادية أو حتى ثقافية واجتماعية على الرغم من تجاوزهم سن السبعين والثمانين، ومازال نهر عطائهم يجري بشكل جيد كما لو أنهم في سن الشباب، وهو ما أرجعه علماء التحليل النفسي إلى التجارب العقلية المستمرة، إلى جانب تراكم الخبرة الحياتية وتجدد النشاط العقلي بشكل مستمر دون توقف.

وفي هذا السياق قال الدكتور يسري عبد المحسن، أستاذ الطب النفسي بجامعة القاهرة، إن هناك بعض العقول التي تستمر في العطاء والقدرة على الإبداع في مراحل عمرية متأخرة معروفة بالشيخوخة، نتيجة لأن الحياة تصبح أكثر نضجا لمرور العقل بالكثير من التجارب والخبرات، كما أن الحياة في هذه السن تصبح أكثر نضجًا وتحفل بالخبرة والوعي الإنساني والفلسفة وعمق النظرة للحياة، فكلما كان هناك المزيد من الخبرة والوعي والممارسة كان الإنسان أكثر غزارة في عطائه حتى لو كان طاعنا في السن، لذلك لا يتوقف عطاء المبدع مع تقدمه في العمر، وإنما يحدث بعض التحول والتطور نظرًا لعمق الرؤية، كما أن الانتظام في الإبداع بشكل مستمر يشكل خبرة متراكمة يمكن الاعتماد عليها مع مرور الوقت.

أستاذ الطب النفسي نفى وجود علاقة مباشرة بين تقدم العمر والإبداع، مستدركًا أنه من المعروف ارتباط الإبداع بالنضج النفسي والعقلي والروحي للمبدع، فخبرة المبدع تزيد مع تقدم العمر، كما أن العلاقة بين الإبداع وتقدم العمر ترتبط بمدى اهتمام الشخص بموهبته، وإذا لم يستسلم خلال مشواره للمغريات والهموم الحياتية يظل الإبداع موجودًا، بل يزيد ويتعمق مع تقدم السنوات بحكم الاكتساب التلقائي لمزيد من الخبرة واتساع مساحة الرؤية ونمو الخيال.

لكن الدكتور عبد المحسن حرص على تأكيد أن أغلب التجارب تفيد بأن الإبداع في مرحلة الشباب بشكل خاص يرتبط بتجارب أكثر عاطفية، حيث تعتمد هذه المرحلة على اليقظة المستمرة للجانب الوجداني، ومع تقدم المرحلة العمرية هناك الكثير من المتغيرات التي تحدث للمبدع نتيجة لكثرة مسئوليات الحياة وتراكمها مع مرور الوقت، وهذه المتغيرات يمكن أن تؤثر عليه بشكل سلبي، ولكى يواجه ذلك عليه أن يتسلح بالمتابعة المستمرة للأحداث، هذا إلى جانب الثقافة والمتابعة للمستجدات المعرفية أولا بأول.

وأضاف أن طريقة استخدام المبدع لموهبته على مدى سنوات عمره المختلفة هي فقط القادرة على تحديد مدى استمرارها وقدرتها أيضا على التجدد، فمن المعروف أن المبدع الذي يستنفذ موهبته في إبداع سطحي ونمطي لمجرد الاستهلاك الإعلامي والشهرة من أجل التواجد بين صفوة المجتمع، يؤدي بشكل مؤكد إلى تراجع موهبته واختفائه من ساحة الشهرة سريعا.

كما أن الموهبة تشبه في تكوينها الكائن الحي الذي ينمو باستمرار، فغالبا ما تحتاج الموهبة إلى الرعاية والمعالجة بفطنة، إلى جانب توفر الذكاء مع التزود بالثقافة والمعرفة، فمن الطبيعي أنه حال توقف المبدع عن القراءة والاطلاع بالتدريج يتحول إنتاجه إلى إبداع هزيل مع مرور السنوات، وربما يختفي الإبداع تماما، لكن هناك نوعًا من الموهبة طويلة العمر دائما تصاحب سنوات عمر المبدع حتى أيامه الأخيرة ولا تهرب منه بشرط أن يحافظ عليها، وهناك مبدعون توقفوا في منتصف الطريق لأن الموهبة خذلتهم.

والإبداع - والكلام ما زال على لسان أستاذ الطب النفسي - يرتبط بمهنة معينة أو مجال تخصص معين، ففي كل مهنة تضعف الكفاءة ويقل الإنتاج مع تقدم العمر، لكن المبدع في مجال معين يحدث معه العكس لأن موهبة المبدع تصبح أكثر نضجًا وإبداعه أكثر تألقًا مع طعنه في السن بفضل الاستفادة من الخبرات المتنوعة في مختلف نواحي الحياة، وخير مثال على ذلك ما أبدعه الأديب الراحل نجيب محفوظ في السنوات الأخيرة من عمره، فقد قدم عملين في غاية الرقي فيهما قمة الفلسفة والحكمة، كما أن توفيق الحكيم ظل يكتب حتى بعد الثمانين.
وتشير أغلب الدراسات إلى أن الإبداع لا عمر له لأن هناك من بدءوا مشوارهم الإبداعي وهم في سن الخمسين واستمروا، وهناك العديد من المبدعين وهنوا وهم في سن الشباب وتوقف إنتاجهم.

واتفاقًا مع الرأى السابق، أكد الدكتور سعيد عبد العظيم، أستاذ الطب النفسي بجامعة القاهرة، أنه على الرغم من بدء المخ في فقدان أعداد هائلة من خلاياه عند تقدم العمر، إلا أن هذا التناقص لا يحول إطلاقًا دون الإبداع في سن متأخرة، نظرا لأن التدهور الكمي لتلك الخلايا يعوضه تخصص المبدع في مجال معين وتوالي اطلاعه وتوسع مداركه على مر السنين، وحتى حين يلاحظ على كبار السن النسيان وقلة التركيز تجد أن العلماء منهم يحتفظون بملكة التحليل والاستنباط.
ولفت إلى أن السن التي يصل فيها الإبداع إلى ذروته قد تختلف باختلاف المجال نفسه؛ فمن الملاحظ مثلًا أن معظم الشيوخ المبدعين كان إنتاجهم إما "فلسفي" أو "أدبي"، وتلعب الخبرة والنضج العقلي دورًا مهمًا في صقلهما، وبعكس ذلك تجد أن معظم اختراعات العلماء جاءت في سن مبكرة، لكون الاختراع يتطلب جرأة وتحديا وهي التي تتسم بها طبيعة الشباب.

وفي هذا الإطار، قام عالم النفس "ليهمان" بدراسة سير العباقرة للخروج بمتوسط السن التي يبدعون فيه، فوجد في النهاية أن السن التي يصل فيه الإبداع إلى ذروته تتفاوت بشكل كبير بين الشعراء والعلماء والموسيقيين وأساتذة الرياضيات، فمهما كان التخصص فإن النضج العقلي والخبرة الطويلة هما الورقة الرابحة لبدء المتقاعد حياة جديدة، فقد لا يكون المتقاعد على رأس العمل ولكنه يستطيع طرح خبراته من خلال "كتاب" أو مقال أو العمل في مجال الاستشارات الخاصة، وفرص كهذه يجب خلقها والبحث عنها بجدية.

ولم يغفل الخبير النفسي الإشارة إلى أن قدرة الله على إيداع بعض هؤلاء نسبة ذكاء تدفعهم إلى العطاء بشكل مستمر تلعب دورًا مهمًا في استمرار إبداعهم في مختلف المجالات حتى سن اليأس مهما كانت التحديات المواجهة لهم.
الجريدة الرسمية