من الزنزانة إلى المذبح، سجن وكنيسة مار جرجس شاهدان على اضطهاد الرومان للمصريين ( صور)
في قلب مصر القديمة، وتحديدًا داخل نطاق حصن بابليون، يقف مكان صامت لكنه مثقل بالحكايات. تحت درجات كنيسة، تختبئ زنزانات ضيقة وفوق سجن روماني قديم يرتفع مذبح، ليجسد تاريخًا مزدوجًا من الألم والإيمان.
هنا، لا ينفصل التاريخ عن الروحانية، ولا يمكن قراءة الحجر دون استحضار المعاناة التي عاشها المسيحيون الأوائل.
إنّه سجن مار جرجس، أحد أقدم السجون الرومانية الباقية في مصر، والكنيسة التي شُيّدت فوقه، لتصبح شاهدًا حيًا على صمود الإيمان في مواجهة القهر.
حصن بابليون المسرح الأول للحكاية
يعود تأسيس حصن بابليون إلى العصر الروماني، وكان مركزًا عسكريًا وإداريًا مهمًا يحكم القاهرة القديمة.
لم يكن اختيار موقع السجن عشوائيًا، فقد شكل الحصن مركزًا للسيطرة على المدينة، وكان المكان المثالي لاحتجاز المعارضين.
المسيحيون الأوائل الذين رفضوا عبادة الأوثان والولاء للإمبراطور، كانوا من بين أول من سجنوا فيه.

داخل هذا الحصن، تبلورت واحدة من أقسى مراحل التاريخ، حين تحوّل الإيمان إلى تهمة، والعقيدة إلى جريمة تستوجب العقاب. كان القهر النفسي والجسدي جزءًا من النظام الروماني، وكانت الزنزانات مظلمة، ضيقة، وباردة، تُترك فيها الأرواح لتختبر صبرها.
سجن مار جرجس: تحت الأرض حيث سكن العذاب
يقع السجن أسفل مستوى الأرض، ويُنزَل إليه عبر ممر حجري ضيق، لا يزال يحتفظ برطوبته وبرودته. الزنزانات صغيرة، الجدران سميكة، وتظهر حلقات حديدية كانت تُستخدم لتقييد المساجين. لا نوافذ سوى فتحات ضيقة تسمح للضوء بالتسلل بصعوبة، ما يجعل المكان مظلمًا ومعتمًا، ويضيف شعورًا بالخوف والانعزال.

تؤكد الكنيسة القبطية أن القديس مار جرجس، أحد أشهر شهداء المسيحية، سُجن وعُذّب في هذا المكان قبل استشهاده، وهو ما منح السجن اسمه وأهميته الروحية. ومع مرور القرون، تحوّل السجن إلى مزار ديني وتاريخي، يقصده الزوار للتأمل في المعاناة التي تحملها الشهداء، وللوقوف على أحد أبرز معالم الاضطهاد الروماني في مصر.
تجربة زيارة السجن ليست مجرد مشاهدة، بل شعور بالزمن الماضي، وكأن الزائر يسمع صدى الخطوات والآهات القديمة، ويستشعر صراع الإنسان مع الظلم، والتشبث بالإيمان رغم القسوة.

من القهر إلى القداسة بناء الكنيسة فوق السجن
فوق السجن مباشرة، شُيّدت كنيسة مار جرجس للروم الأرثوذكس، لتعلن رمزيًا انتصار الإيمان على القهر، والحياة على الموت. الكنيسة الدائرية، وهو طراز نادر في العمارة الكنسية بمصر، بنيت فوق أحد أبراج الحصن الروماني. هذا التصميم يعكس تراكب الزمن: حيث الماضي المظلم تحت الأقدام، والحاضر المضيء في المذبح، ويجعل المكان رمزًا حيًا لتاريخ متواصل من الألم والانتصار.

الكنيسة المدورة عمارة تحكي قصة
تضم الكنيسة أيقونات أثرية، أبرزها أيقونة القديس مار جرجس وهو يطعن التنين، التي تجسد صراع الخير والشر، والإيمان في مواجهة الطغيان.
كما يوجد ممر داخلي يسمح للزوار بالانتقال من فضاء الصلاة إلى عمق السجن، في تجربة روحية وإنسانية فريدة. الجدران المزخرفة والأسقف المقببة والأعمدة الحجرية، جميعها تحكي فصولًا من تاريخ المكان، وتربط بين الماضي والحاضر بطريقة بصرية ووجدانية قوية.

طقوس وزيارات ذاكرة لا تنقطع
يشهد المكان زيارات كثيفة، خاصة في عيد مار جرجس، حيث تتكثف الصلوات والنذور. بعض الزوار ينزلون إلى السجن بصمت، وآخرون يلمسون الجدران، وكأنهم يبحثون عن صلة شخصية مع الماضي. كما تُنظم أحيانًا زيارات تعليمية للمدارس لتعريف الأجيال الجديدة بتاريخ المسيحيين الأوائل ومعاناتهم، ما يحول المكان إلى مدرسة حية للتاريخ والروحانية.

مكان واحد… زمنان متقابلان
يجمع سجن وكنيسة مار جرجس بين زمنين متناقضين: زمن القوة الغاشمة، وزمن الإيمان الصامد. المكان يتحول من شاهد على القسوة إلى رمز للخلود، ومن أداة إخضاع إلى فضاء للحرية الروحية. الحجارة لا تزال تتحدث، والزائر يشعر بصدى الألم والرجاء معًا. من الزنزانة الضيقة إلى المذبح المرتفع، تبقى الحكاية مستمرة: الألم تحول إلى تقديس، الاضطهاد إلى تذكير أبدي، والإيمان إلى إرث خالد للأجيال القادمة.





