فيتو
رئيس التحرير
عصام كامل

مصر ملاذ الأنبياء.. قراءة في جغرافيا رحلة العائلة المقدسة من كنيسة أبو سرجة إلى جبل الطير

من بيت لحم إلى قلب مصر رحلة الميلاد كما حفظتها الكنائس والآبار والمغارات..
ليست قصة الميلاد في الوعي المصري مجرد حدث لاهوتي ارتبط بليلة مقدسة، بل رحلة إنسانية كاملة الأركان، بدأت بالخوف وانتهت بالطمأنينة. رحلة عائلة تبحث عن الأمان، فوجدته على أرض مصر. هنا، لم تُحفظ الحكاية في الكتب فقط، بل استقرت في الجغرافيا: كنائس بُنيت فوق آثار العبور، وآبار شربت منها العائلة المقدسة، ومغارات احتمت بها من بطش الزمن. في هذا الفيتشر، نتتبع خيوط رحلة الميلاد كما تجسدت في ثلاثة مواقع مفصلية: الكنيسة، والبئر، والمغارة.

الهروب المقدس حين صار الطريق وطنًا

بحسب التقليد المسيحي، جاءت رحلة العائلة المقدسة إلى مصر هربًا من بطش هيرودس، الذي أمر بقتل أطفال بيت لحم. حمل يوسف النجار الطفل يسوع، وسارت مريم العذراء في طريق طويل قاسٍ، بلا يقين سوى الإيمان. لم تكن الرحلة نزهة روحية، بل مسار نجاة محفوف بالمخاطر، عبر صحراء وحدود ومدن غريبة، حتى صارت مصر ملاذًا آمنًا.

وتذكر المصادر الكنسية أن العائلة دخلت مصر من جهة سيناء، ثم توزعت محطات الرحلة بين الدلتا وصعيد مصر، في مسار ترك أثره في الذاكرة الشعبية والطقس الديني والعمارة الكنسية.

كنيسة أبو سرجة حيث سكن الميلاد قلب القاهرة

في قلب مصر القديمة، داخل مجمع الأديان، تقف كنيسة القديسين سرجيوس وواخس، المعروفة باسم كنيسة أبو سرجة، كواحدة من أقدس محطات رحلة العائلة المقدسة. لا تكتسب الكنيسة قيمتها من قدمها فقط، بل من إيمان راسخ بأن العائلة المقدسة لجأت إلى هذا المكان وأقامت فيه فترة من الزمن.

أسفل الكنيسة، توجد المغارة التي يُعتقد أن العائلة المقدسة سكنت فيها، وهي مساحة منخفضة عن مستوى الأرض، بسيطة التكوين، تخلو من الزخرفة المبالغ فيها، وكأنها تُصرّ على تذكير الزائر بأن القداسة هنا نابعة من المعنى لا من الشكل. الكنيسة بُنيت لاحقًا فوق هذا الموضع، لتصير طبقة فوق طبقة من الذاكرة، حيث يعلو الحجرُ الإيمان.

البئر ماء الحياة في زمن الخوف

داخل كنيسة أبو سرجة، يوجد بئر يُنسب إلى العائلة المقدسة، ويُقال إن مريم العذراء استقت منه الماء، وشربت منه مع الطفل يسوع. لا يُنظر إلى هذا البئر باعتباره عنصرًا معماريًا فقط، بل شاهدًا حيًا على لحظة إنسانية شديدة البساطة: عطش أم وطفل في أرض غريبة.

ظل البئر عبر القرون مقصدًا للزوار والحجاج، بعضهم يراه رمزًا للبركة، وبعضهم يتعامل معه بوصفه أثرًا تاريخيًا، لكن الجميع يتفق على دلالته العميقة: الماء هنا ليس مجرد سائل، بل علامة حياة، واستمرار، وقدرة على النجاة.

مغارة جبل الطير ثلاثة أيام في حضن الصخر

على الضفة الشرقية لنهر النيل، بالقرب من سمالوط بمحافظة المنيا، يقع جبل الطير، أحد أكثر مواقع رحلة العائلة المقدسة تأثيرًا في الوجدان الشعبي. في هذا الجبل، توجد مغارة يُعتقد أن العائلة المقدسة مكثت فيها ثلاثة أيام، احتمت خلالها من أخطار الطريق.

المغارة منحوتة في الصخر، ضيقة، حادة الملامح، وكأن الطبيعة نفسها قررت أن تشارك في حماية الطفل. المكان لا يفرض عليك الصمت، لكنه يستدعيه. هنا، يتراجع الضجيج لصالح التأمل، وتتحول القصة من سرد ديني إلى تجربة إنسانية: أم تخشى على ابنها، وأب يبحث عن مأوى، وطفل صار وجوده سببًا لكل هذا الخوف وكل هذا الأمل.

 

من الأسطورة إلى الجغرافيا كيف صارت الرحلة تراثًا حيًا؟

ما يميز رحلة الميلاد في مصر أنها لم تبقَ حبيسة النصوص، بل تحولت إلى تراث مكاني حي. الكنائس بُنيت حيث مرّت العائلة، والأديرة نشأت حول المغارات، والاحتفالات الشعبية ما زالت تستعيد الرحلة سنويًا، خصوصًا في أعياد الميلاد.

الدولة المصرية اعترفت رسميًا بمسار العائلة المقدسة، وجرى إدراجه كمسار سياحي-ديني، في محاولة لربط التاريخ بالإيمان، والذاكرة بالاقتصاد، والقداسة بالحياة اليومية.

 

 الميلاد الذي لا ينتهي

رحلة الميلاد في مصر ليست حكاية عن الماضي فقط، بل عن فكرة باقية: أن الأرض التي تحمي الهاربين تستحق أن تُسمّى مباركة. بين كنيسة وبئر ومغارة، تتجسد القصة في تفاصيل صغيرة، لكنها قادرة على أن تمنح الزائر شعورًا نادرًا بالطمأنينة. هنا، لم يكن الميلاد لحظة عابرة، بل رحلة كاملة… وما زالت مستمرة في الذاكرة.